ذات يوم فى عام 1962، رن جرس باب شقتها التى كانت تقع فى أحد شوارع جيفعتايم قرب تل أبيب، فهرعت إيزابيل بيدرو إلى العين السحرية المثبتة فى باب الشقة، لترى من يقف أمام الباب، فوجدت شابين لا تعرفهما، ففتحت الباب قليلا جدا. فعاجلها أحد الشابين قائلا: «لا شيء يدعو للخوف، نريد فقط أن نعرض عليك عملا خارج البلاد، يتعلق بالقضايا الأمنية».
دعت إيزابيل ضيفيها، اللذين لا تعرف اسميهما، إلى الدخول، وتبادلت معهما الحديث، ففوجئت بهما يسردان أمامها قصة حياتها، كما لو كانا من أفراد أسرتها المقربين. حين سألتهما عن الشخص الذى أرسلهما إليها، كان الصمت هو الإجابة الوحيدة. وبعد دقائق أخبراها بأن من أرسلهما إليها اشخاص واثقون من قدرتها على القياد بدور مفيد ومهم لصالح دولة إسرائيل من خارج حدودها. أما هى فلم تجب عليهما بالقبول أو الرفض، وانتهى اللقاء على وعد بأن يأتيا إليها مرة أخرى ليعلما منها قرارها فى هذا الشأن.
فى ذلك الوقت، كان قد مر عام كامل على بقاء إيزابيل فى إسرائيل، وكانت حسناء فى الثامنة والعشرين من عمرها، تعمل مهندسة معمارية وتعيش بمفردها فى الشقة، وخطر على بالها الخوف من أن يكون هذان الشابين من العاملين فى عصابات الاتجار بالنساء لأغراض الدعارة، التى كانت تنشط فى ذلك الحين بين أوساط المهاجرات الجديدات اللاتى كن يتصفن بالبراءة والسذاجة.
توجهت إلى شرطة يافا، وطلبت مقابلة ضابطة شرطة، وروت لها ما دار بشأن هذه الزيارة المفاجئة لشابين فى شقتها، وطلبت منها فحص أصل الحكاية وما إذا كان الموضوع جادا أم مثيرا للريبة. وسجلت الشرطية كل هذه المعلومات، ووعدتها بالاتصال بها بعد استيضاح الأمر.
بعد مرور يومين، توجهت الشرطية إلى شقة إيزابيل بيدرو، وما أن التقتها قالت لها: «لا داعى لخوفك أو شكوكك، فهذا عرض جاد». وبعد ذلك بوقت قليل ظهر الشابان فى شقتها وطلبا معرفة قرارها بشأن العرض الذى قدماه، وكان ردها: «أريد أن أقابل مسؤولا أعلى منكما».
بالنسبة لهما، كان ذلك ردا إيجابيا، فسارعا إلى تحديد موعد للقاء المسؤول الذى تريده، بعد يومين، فى مقهى «ورد» بشارع ديزنجوف فى تل أبيب.
جلست إيزابيل إلى مائدة فى الطابق الثانى من هذا المقهى، الذى شهدت جدرانه على أنشطة سياسية متنوعة. وفى خلال دقائق معدودة، جلس أمامها رجل راشد يكبرها فى السن. فسألته: «لماذا اخترتونى؟». فأجاب: «ما نعرفه عنك يكفى لاختيارك».
بعد 48 عاما من هذا اللقاء، تحكى إيزابيل بيدرو إنها فكرت آنذاك بينها وبين نفسها، فمصلحتها الشخصية قالت لها: «هذه وظيفة جيدة، وعليك أن تقبلى كى تبنى لنفسك مسيرة مهنية شخصية». أما المصلحة الوطنية فأخبرتها بأن هذا العرض سيعوضها عن عدم خدمتها بالجيش الإسرائيلى، ويسمح لها باستكشاف قدراتها الشخصية.
تعود جذور عائلة إيزابيل من ناحية والدها إلى مدينة طليطلة، التى كانت تعرف فى القرون الوسطى باسم «مدينة التسامح» حيث كان يتعايش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون، وفتحت على يد المسلمين بقيادة طارق بن زياد عام 712 م. أما اليوم فتعرف المدينة باسم «توليدو»، وتقع فى وسط إسبانيا على بعد 75 كيلومترا جنوب العاصمة الإسبانية مدريد.
وتقول إيزابيل إن أحد أجدادها وكان يدعى «دون بيدرو»، كان مسؤولا عن شراء الخيول العريقة لأحد ملوك إسبانيا، حتى أن مهنته تلك أنقذته هو وعائلته من محاكم التفتيش التى شهدتها أوروبا فى العصور الوسطى، وكانت تجبر غير المسيحيين على اعتناق المسيحية، حتى أن أحدا لم يطالب عائلة «بيدرو»، بسبب مكانتها، بتغيير ديانة أفرادها. ولكن يبدو أن هذه المكانة لم تكن كافية لحماية العائلة، الأمر الذى دفعها لمغادرة إسبانيا عام 1531، بموافقة الملك كارلوس الأول آنذاك، والانتقال للإقامة فى هولندا.
وبعد عدة سنوات، انقسمت عائلة بيدرو، فبقى جزء منها فى هولندا، وهاجر جزء آخر إلى بريطانيا، وتوجه جزء ثالث إلى بولندا حيث استوطن فى بلدة «زورومين»، التى توصف بأنها مركز استيطان اليهود فى بولندا، وتبعد بنحو 120 كيلومترا شمال غرب العاصمة وارسو، وتنتمى إليها إيزابيل بيدرو.
والدها، إسحاق بيدرو، انضم لحركة «عمال صهيون» اليسارية، وخدم فى الجيش البولندى، الذى هرب منه عام 1921 إلى فلسطين، التى كانت تحت الانتداب البريطانى آنذاك. وتقول إيزابيل إن والدها روى لها إنه كان من بين مؤسسى مستوطنة «جيفعات هاشلوشاة»، قرب مدينة «بيتح تيكفا». وتشير إيزابيل إلى أن والدها، لأسباب لا تعرفها، قرر أن يهاجر من فلسطين ليجرب حظه إلى جانب شقيقته، «حياة كوبلتسمان»، التى هاجرت من بولندا إلى أورجواى فى أمريكا اللاتينية.
وبعد سلسلة مغامرات انضم إلى شقيقته وعاش مع عائلتها، حيث اتجه للعمل بتجارة الملابس، وتزوج من إحدى قريبات الأسرة، وكانت تدعى «جانيا مالفياك»، واتسعت تجارته وأعماله حتى أقام مصنعاً لزيت بذرة الكتان. وفى عام 1934 وُلدت ابنته إيزابيل.
تعلمت هذه الطفلة فى مدرسة تعمل فى أوروجواى تحت رعاية الحكومة البريطانية، وبعد انتهاء دراستها الثانوية درست الهندسة المعمارية والرسم فى جامعة للفنون فى العاصمة مونتفيدو، وفى الوقت نفسه تعلمت العزف على البيانو ورقص الباليه، كما كانت ناشطة فى منظمات الشباب الصهيونى، وكانت من مؤسسات تنظيم شباب باسم «هيبرايكا» التى كانت تدعو إلى منع انصهار اليهود فى المجتمعات غير اليهودية التى يعيشون فيها، وكذلك منع الزواج المختلط، أى زواج اليهودية من غير اليهودى.
وتتذكر إيزابيل ذلك اليوم الذى قامت فيه وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك جولدا مائير بزيارة إلى أوروجواى، وشكَّل أعضاء تنظيمات الشباب الصهيونى سلاسل بشرية فى استقبالها. وفى حضور جولدا ألقت إيزابيل كلمة دعت فيها أقرانها من الشباب اليهودى إلى بذل المزيد من أجل إسرائيل، ويبدو أن جولدا تأثرت بتلك الكلمات، فأشارت طالبةً من إيزابيل الاقتراب منها، ثم سألتها: «هل تتحدثين لغة الييديش؟»، وهى لغة تشكل اللغة الألمانية 80% من مفرداتها، لكنها تكتب بحروف عبرية، وكانت معروفة بأنها لغة اليهود فى أوروبا. وردت عليها إيزابيل بجرأة الشباب قائلة: «أنا لست من الأغيار»، أى أنها يهودية، فاقتربت منها جولدا مائير وقالت لها: «نحتاجكِ لدينا فى إسرائيل».
توقفت إيزابيل عن الأنشطة العامة عقب زواجها حين كانت فى التاسعة عشرة من عمرها ليهودى من أصل رومانى، لكنهما انفصلا بعد 18 شهراً فقط، وانتظرت الطلاق طوال 7 سنوات من العذاب، عملت خلالها مُصممةً فى مصنع كبير للأثاث، وبعد حصولها على الطلاق سارعت إلى مكتب الوكالة اليهودية وأعلنت عزمها الهجرة إلى إسرائيل.
أكثر من 300 شاب وفتاة من اليهود رافقوا بالرقص والغناء مجموعة من 35 شاباً وفتاة، من بينهم إيزابيل بيدرو، إلى الميناء الذى أبحرت منه سفينة ركاب إسبانية تقصد أرض فلسطين. وخلال الرحلة لفتت إيزابيل انتباه أحد ضباط السفينة، ويدعى خوان أنطونيو، الذى اقترب منها وسألها عن سر هذا الاحتفال الذى نظمه الشباب لهم بمناسبة رحيلهم عن أوروجواى، فأخبرته بأن ذلك كان تنفيذاً لتعاليم الهجرة إلى أرض إسرائيل. ومنذ تلك اللحظة نشأت علاقة بينهما، فكتب لها عنوان عائلته فى إقليم قشتالة بشمال إسبانيا، ودعاها لزيارته، لكنهما انفصلا بمجرد وصول السفينة إلى ميناء جنوة الإيطالى، حيث غادر السفينة وفد الشباب اليهودى.
فى تلك اللحظة لم تكن إيزابيل تتخيل أنها ستعمل بجهاز الموساد الإسرائيلى، وأن لقاء بالصدفة مع ضابط بحرية إسبانى سيجعله وسيلة غير مباشرة لإرسال رسائل أمنية حساسة من مصر إلى إسرائيل.
غدا: حسناء الموساد تكشف تدريبات التجسس وسر عشقها لمصر
إعداد وترجمة: محمد البحيرى