عامان على رحيل المفكر الإسلامي جمال البنا ماهر حسن مضى عامان على رحيل المفكر الإسلامي، جمال البنا، الذي كنا التقيناه في أكثر من حوار لـ«المصري اليوم»، وأنجزنا عنه أكثر من ملف.
وفي الملف الأخير عنه قبل رحيله، أراد أن يختار عنوانا لهذا الملف، هو «الوهج تحت الرماد»، وكأنما أراد الرجل، الذي عرف بأنه «مفكر العواصف والمعارك، المتمرد، الذي كشف ألاعيب جماعة الإخوان وعالمها السري»، أن يقول على كهولته إن تحت الرماد وهج لا يخفت فهو لآخر لحظة في عمره صاحب القضايا الفكرية الاشتباكية مع رموز الرجعية والأفكار الجامدة والجاهزة والتي لا تنتج سوى التطرف والإرهاب وتلغي أكبر منحة منحها الله للإنسان وهي نعمة العقل وإعمال التفكير.
وجمال البنا، هو الشقيق الأصغر لمؤسس جماعة الإخوان، لم يسلك مسلكها ولم يتبنى نهجها ولم يروج له بل وقف له معارضا ومختلفا مع فكر هذه الجماعة، بل تجاوزت معارضاته الفكرية مع أصحاب الأفكار الجامدة. وكان رائداً للفكر التنويري الإسلامي، من خلال العديد من الآراء الفقهية التي أثارت الكثير من الجدل.
مثلت «المصري اليوم»، لـ«جمال البنا»، أحد أبرز المنابر التي خاض منها معاركه الفكرية والفقهية وداوم على كتابة مقالاته فيها، و«المصري اليوم»، من جانبها تعود لتحيي ذكري الرجل، خاصة أنها تتوقع أن تقابل ذكراه بالصمت الرهيب. ولا غرو في ذلك فقد كان هذا المحارب الكهل مقاتلا من طراز فريد احتفظ بجرأته وقوة حجته وقوته وجسارته في مواجهة الأفكار الرجعية لآخر لحظة في حياته من خلال مقالاته وكتبه وندواته. في محافظة البحيرة، وفى مدينة المحمودية الوادعة التي تجمع بين طابعي الزراعة والتجارة، ولد جمال البنا، أصغر الأبناء الذكور لـ«أحمد عبدالرحمن البنا»، في ١٥ ديسمبر عام ١٩٢٠، وتم تسجيله في دفتر المواليد في ١٩ ديسمبر من العام نفسه. أما شقيقه الأكبر فهو حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٢٨، وكان الأب يتمتع بعلو الهمة، والابن البكر «حسن» يتمتع بالإرادة، ومما يذكر للأب أنه أوقف حياته على إنجاز مشروعه الضخم «تصنيف وشرح مسند الإمام أحمد بن حنبل».ويماثل هذا العمل العظيم ما قام به الابن الأكبر حسن البنا، حيث استطاع في عشرين عاماً تأسيس وتكوين جماعة الإخوان المسلمين التي صمدت أمام عداوة حكام مصر من الملك فاروق إلى عهد مبارك.
ومن المدهش أن الأب أحمد البنا وابنه الكبير حسن البنا وابنه الأصغر جمال البنا، رغم انخراطهم بين التنظير والتنظيم الإسلامى، لم تطأ قدم أحد منهم الأزهر ولم يتعلموا فيه كما أن حسن البنا نهض بالجماعة منذ أسسها في ١٩٢٨ في الإسماعيلية من ستة عمال من العاملين في القنال اختارهم من على المقهى وليس من المسجد ونهض حسن البنا بالجماعة إلى هذا المستوى كهيئة دولية لها خمسمائة شعبة ولها فروع في العالم الإسلامي. أما عن طبيعة العلاقة التي ربطت بين الثلاثة «الأب والإمام والمفكر» نعنى «أحمد وحسن وجمال» فقد كانت وثيقة حميمة، وكانت أقوى من علاقة بقية الإخوة بهم، ذلك أن جمال البنا رفض الحياة البرجوازية المألوفة التي تبدأ بدخول الجامعة ثم الانخراط في وظيفة ثم الزواج وتكوين أسرة ورفض جمال البنا هذا النمط البرجوازى للحياة، فكان لديه الوقت الطويل الذي قضاه مع الأب والشقيق اللذين أيضاً كانا في حاجة إليه لمعاونتهما في بعض أعمالهما وقد آنسا في طبعه الهادئ والمتمرد معاً شيئاً يقربه إليهما فكانت العلاقة المتميزة الطويلة وكانت نقطة إعجاب جمال البنا بوالده وشقيقه هي فكرة ومبدأ «الرسالية» لدى هذين الرجلين من خلال رسالة كل منهما على حدة، حيث أخضع كل منهما حياته وأوقفها على رسالة يؤمن بها ويؤديها ويأخذ نفسه بالجد ليقوم عليها أتم قيام. أما علاقة «جمال» بوالده فتبدأ من كونها علاقة أب بآخر العنقود من الذكور السابق على آخر عنقود البنات «فوزية».
وفى هذا الوقت كانت الأسرة انتقلت من المحمودية الجميلة المريحة الواسعة ذات النهر الفسيح والشمس والسماء الصافية والبراح المفتوح والأفق الواسع إلى أزقة القاهرة التي لا تدخل بيوتها الشمس أو النور وإنما الرطوبة والبرد. وعندما ولد جمال البنا كان نحيفاً واهن الجسد، يسير بخطى متثاقلة ولم يكن يستطيع أن يلعب ويرتع، فالحارة الضيقة تحول دون ذلك كما أن صحته طفلاً لم تساعده على ذلك فانطوى على نفسه وأمضى حياته دون أن يركب دراجة، فكان المتنفس الوحيد هو القراءة وكان والده يصطحبه معه وهو طفل إلى مكتبه ويجلس الأب للكتابة ويدعه في الصالة الخلفية للمكتب، وكانت مكتبة الوالد هذا الريفى السنى حافلة بالمجلات والصحف فكان جمال يقلب فيها ويقرؤها، فقرأ «اللطائف المصورة» وقرأ القصص المترجمة وقرأ مجلة «الأمل» التي أصدرتها شابة ناهضة هي «منيرة ثابت» التي كانت أول من دعا لحق المرأة في الترشح لانتخابات البرلمان.
ومنذ تلك الأيام كانت العلاقة بين جمال ووالده متصلة وحميمة حتى توفى الوالد كما كان الأب يحب آخر أبنائه من الذكور والبنات فأحب «فوزية» و«جمال» وقد سمى ابنه «جمال» على اسم «جمال الدين الأفغانى» تيمناً به. تأثر جمال البنا، بوالده في كثير من الأشياء، منها أنه عمل فوق مستوى المذهبية بالعودة لفقه السنة لا فقه المذاهب، كما تأثر فيما يمكن وصفه بعصامية العلم والمعرفة. ومن المدهش مثلا أن الوالد أحمد البنا وجمال البنا لم ينخرطا في جماعة الإخوان، ولم يزر الوالد مقر الجماعة إلا مرات معدودة فضلاً عما أخذه «جمال» عن أبيه من علو الهمة وتقشفه واقتصاره على ضرورات الحياة. أما عن علاقة جمال البنا بشقيقة الأكبر حسن فكانت متميزة وحميمة وكانت فيها جدلية نشأت من اختلاف الطبائع، وهو اختلاف يمثل تكاملاً مع فارق أن حسن البنا نشأ وكبر في المحمودية فيما نشأ جمال في القاهرة رغم مولده في المحمودية.
وكان حسن البنا يدرك بحاسته أن في أخيه تميز «الرسالة» الذي توفر له ولأبيه، وكان هذا سر تقريبه رغم الاختلاف الذي أدى للترابط لا التنافر، وقد لمح حسن البنا لشقيقه الصغير برغبته في أن يعمل معه في مناسبتين، كانت الأولى عندما دار حديث عن علاقة رشيد رضا بالشيخ محمد عبده ثم علاقته بابن عمه الذي كان يحمل اسم «عاصم» ويتولى إدارة أعماله، ولكن جمال البنا صمت فلم يكن يستطيع إعلان رفضه هذه الثقة كما أنه لا يستطيع القبول.
وأدرك حسن البنا بفراسته ذلك فغير الحديث، أما المرة الثانية فكانت حينما ألقى البوليس القبض على جمال البنا وبعض أعضاء الحزب الذي أسسه جمال البنا في ١٩٤٦ وهو حزب العمل الوطنى الاجتماعى حينما قاموا بتوزيع منشورات عن ذكرى ضرب الأسطول البريطانى للإسكندرية. وأرسل حسن البنا أحد أعوانه إلى سليم ذكى حكمدار القاهرة الذي أصدر قراراً فورياً بالإفراج عن جمال، فلما عاد إليه قال له حسن البنا: «أنت تكدح في أرض صخرية صلبة، ونحن لدينا حدائق تثمر أشجارها فواكه تتساقط وتحتاج لمن يلتقطها»، ورد جمال البنا قائلاً: «إن فواكه الإخوان ليست هي الثمار التي تريدها».
ولم يتأثر حسن بهذا الرد، لكنه نصح شقيقه بتغيير اسم حزبه من «حزب» إلى «جماعة» حتى لا يصطدم الحزب الناشئ بالحكومة، وهذا ما أخذ به جمال. وكان حسن البنا مهموماً بشقيقه الأصغر من منطلق المسؤولية فحين كان يلمس أن الحياة ضاقت به لبطالته الإرادية كان يكل إليه أعمالا يعرف أنه يقبلها مثل إدارة مطبعة الإخوان وكان آخر منصب عهد به إليه هو سكرتارية تحرير مجلة الشهاب التي يرأس حسن تحريرها. وقد استفاد جمال البنا من شقيقه الكثير فقد أعجب برسالية الإمام، ولكونه قائداً نموذجياً يخضع نفسه لمقتضيات مسؤولية قيادة الجماعة كما كان الإمام متقشفاً كوالده كما كانت فيه كياسة ولطف وأدب وذوق ونوع من مصانعة الناس ويخاطبهم على قدر عقولهم مراعياً الكثير من الاعتبارات، وقد أخذ جمال الكثير من هذا كما كان الدرس الذي استفاده «جمال» من أخيه في أيامه الأخيرة له في صحبة الإمام أن الداعية إما أن يكون منظماً أو منظراً، وأن الجمع بين الاثنين حتماً يبوء بالفشل أو إغفال أحدهما لصالح الآخر لكن الإمام البنا كان منظماً موهوباً وفريداً فيما كان جمال منظراً.
وانتهت علاقة جمال بشقيقه عندما اعتقل جمال في ٨ ديسمبر ١٩٤٨وظل بالمعتقل حتى سنة ١٩٥٠ فلم يحضر الأيام المأساوية الأخيرة لشقيقه ولا كيف استشهد ولا كيف خرجت جنازته لا يسير معها إلا الوالد وسيدات الأسرة فقد كان مسجوناً في الطور عندما وقعت هذا الأحداث. أما علاقة جمال بوالده فاستمرت حتى وفاة الشيخ أحمد في ١٩٥٩ وسار وراء جثمانه وواراه الثرى إلى جوار ولده البكر حسن وآل لـ«جمال» كل تراث الوالد والوالدة والشقيقة فوزية، كما أوصى عبدالرحمن (الابن الثاني في عائلة البنا) بأوراقه وكتبه لشقيقه «جمال».
ومما ورثه عن أمه «الرحاية» و«مكيال» وطبلية وطشوت نحاسية فتخلص منها واحتفظ بطبق صينى أزرق كبير هو طبق الفتة الذي كان ضمن جهاز أمه وكان البنا حينما أفرج عنه قد اشترك في تحرير مجلة الدعوة التي كان يرأس تحريرها صالح عشماوى، وكان سيد قطب يكتب بنفس المجلة ومما يذكر أن أحمد حسين، مؤسس وزعيم حزب مصر الفتاة، دعا جمال البنا للانضمام للحزب لكن جمال أبدى تحفظه وأعلن عن مبدئه الذي يرفض الانضمام لجماعة أو تنظيم فأسند إليه أحمد حسين قسماً خدمياً بالحزب هو قسم «خدمة الشباب».
قضى «البنا»، أكثر من ٦٧ عاما يقدم إبداعاته الفكرية، حيث صدر أول كتاب له بعنوان «ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد» عام ١٩٤٥، وفى العام التالي ١٩٤٦، أصدر كتابه الثانى «ديمقراطية جديدة»، ثم توالت مؤلفاته في الصدور حتى تجاوزت مؤلفاته ومترجماته ١٥٠ كتابا. وعمل محاضراً في الجامعة العمالية والمعاهد المتخصصة منذ ١٩٦٣ وحتى ١٩٩٣، وعمل خبيراً بمنظمة العمل العربية. وكان البنا في حواره معنا للمصري اليوم قد توقع ألا يحكم الإسلاميون مصر كما وصف ثورة ٢٥ يناير بأنها من ثورات منتصف الطريق، لأنها طالبت بإسقاط النظام، دون أن تكون لديها رؤية مسبقة للنظام البديل، وأنها نجحت في إسقاط النظام مثلما أرادت، لكنها فشلت في إعادة البناء، واعتبر أنها نجحت بنسبة ٦٠%، واصفاً مستقبل مصر بأنه مضطرب، وتحيطه المخاطر، متوقعاً أن يستغرق التغيير نحو ١٠ سنوات، متوقعاً ألا يحكم الإسلاميون مصر، مؤكداً أن مسؤولية الإخوان المسلمين الهداية وليس تأسيس الدولة، وأن حسن البنا، مؤسس الجماعة، خاض الانتخابات البرلمانية ثم عدل عن خوضها، لأنه رأى في ذلك صفقة، ولأنه حصل على حق الجماعة في التحرك بحرية. ومن أفكاره التنويرية والتثويرية أنه قال أن ٩٠% من الأحاديث النبوية موضوعة، مشدداً على ضرورة ألا نعتمد على تفاسير القرآن تماما لأنها كلام نقل وليس إعمالاً للعقل، مطالباً بالاعتماد على القرآن مباشرة.
وقال عن السلفيين في مصر إنهم كانوا يرون السياسة رجساً من عمل الشيطان، ويحرمون الخروج على الحاكم، لكنهم شاركوا في السياسة بعد الثورة، وقال إن أكبر فصيل من السلفيين في مصر، إنهم الفصيل الذي يقف على رأسه الداعية محمد حسان، الذي كان يرى عدم مقاومة الحاكم. وعن خوض شقيقه حسن البنا الانتخابات البرلمانية مرتين قال جمال البنا أن شقيقه خاض الانتخابات كصفقة، فالمرة الأولى تم تزويرها، والثانية ضغط فيها الإنجليز على مصطفى النحاس لمنع وصول «حسن» إلى البرلمان،وقابله النحاس وسأله عن عمره، فأجاب «حسن» بأنه ٣٧ سنة، فقال له النحاس: «ما زال المستقبل أمامك طويلاً، فلا داعى لترشيح نفسك الآن»، وهنا طلب «حسن» الحق في قيام جماعته بالدعوة بحرية، ووجد في هذه الصفقة «صلح حديبية جديداً».
لكن الإخوان كانوا محزونين لفقد مقعد البرلمان، وقال جمال البنا أنه حزين لأن الإخوان لم يقرأوا كتابه «الإخوان على مفترق الطرق»خاصة بعد تأسيس حزبهم، فالكتاب به خطوط فاصلة بين الدين والسياسة، ومن الأفكار العامة في الكتاب التي تحدد هذا المعنى أن الإسلام هداية وسلام، والسلطة قهر ورشوة، وأن الإسلام إخلاص وطهارة وعطاء، بينما السلطة احتراف ومغنم ومكسب. ومن الكتب المهمة لجمال البنا، التي تعد توثيقا أيضا لسيرة أقطاب عائلة البنا وبالتوازي توثيقا لمرحلة مهمة من تاريخ الوطن كتاب «خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه»، كتاب فريد من نوعه يمثل إضافة في عالم التراجم (السير)، وهو يقوم على عدد من الخطابات أرسلها الإمام الشهيد حسن البنا إلى والده من سنة ١٩٢٦ حتى سنة ١٩٤٧.
وانتهز المؤلف وجود هذه الخطابات فوضع كتابه هذا بعد أن أضاف إليه سيرة مطولة لحياة وعمل والد الإمام الشهيد الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا «الساعاتي»، منذ ولد وحتى وفاته. وعن العمل العظيم الذي قام به والده بمفرده طوال أربعين عاما في تصنيف وشرح أكبر موسوعة إسلامية في الحديث هي «مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني»، الذي لم يجرؤ عليه أحد منذ ألف عام حتى نهض بذلك هذا الرجل القادم من أعماق القرية، والذى لم يدرس في الأزهر، كما تحدث عن الأيام الأخيرة للشيخ، خاصة بعد أن استشهد نجله البكر حتى توفى ١٩٥٨، واستغرقت هذا الترجمة ٨٣ صفحة انتقل بعدها إلى خطابات الإمام الشهيد.
وكان الكاتب في مقدمته قد عرض في أسلوب رفيع أخاذ بعض الصفات العامة التي تكشف هذا الخطابات عنها، ثم عاد لما بدأ في عرضها تفصيليا فقسمها إلى ثلاث مجموعات، وأول هذا الخطابات تاريخه سنة ١٩٢٦وآخرها تاريخه سنة ١٩٤٧م. ووثق الكتاب في ملحق مستقل ما جاء في الفصلين، وذلك بعرض الصور الخطية للخطابات أو الوثائق وكذلك بعض الصور النادرة للشيخ الوالد وللإمام الشهيد.