x

عمار علي حسن ذكرى رحيل جمال البنا عمار علي حسن الخميس 16-01-2014 22:28


كان الأستاذ جمال البنا الذى رحل عن دنيانا قبل سنة، إنسانا بسيطا، وهكذا كانت جنازته. نفر قليلون جاءوا يجاهدون زحام الشوارع والغربة والخوف من المجهول ليجدوه مسجى فى قلب صندوق، لا ينتظر شيئا من أحد. عاش غريبا ومات غريبا، فطوبى للغرباء..

كان زاهدا مكتفيا بالقليل، فجلابيب قليلة تستر جسده، ولقيمات معدودات يقمن صلبه موزعات بلا عناية فى ثلاجة قديمة تسكنها العتمة، ورأسه كان مدفونا طيلة الوقت بين أكداس من الورق والجرائد، بينما ترمى مكتبته العامرة بعض ظلها على نحافته، وهو جالس إلى مكتبه يدون ما جال بخاطره أو اختمر بذهنه فى دأب وإصرار ونشاط غريب، وكأنه شاب فى مقتبل حياته يسعى إلى أن يتحقق، ويجد لقدميه الغضتين مكانا فى الزحام. خلفه نافذة صغيرة، تطل على مدرسة خليل أغا، تلك التى ذكرها نجيب محفوظ فى ثلاثيته الشهيرة، وحلّ بها تلميذا بطله الذى لا يُنسى «كمال عبدالجواد»، وأمامه بضعة مقاعد متآكلة، انخفض حشوها، واهتزت أرجلها، وبعض مصابيح واهنة تتدلى من السقف لتحارب العتمة الراقدة بين رفين متوازيين من الكتب الموزعة على معارف شتى، ينيخان على مكتب آخر، وضع فوقه جمال عبدالناصر يده ليقرأ الفاتحة مع قادة الإخوان المسلمين، قبل أن يتنازعا ويأتى الخصام التاريخى والهجر والنبذ والاحتراب.

يستيقظ عند الفجر، يصلى ويجلس على مقعده، يقرأ ويكتب، ويواصل عصرا بعد ساعتين يخطفهما من الزمن فى قيلولة منتظمة، يحل فيها على سرير قديم بسيط، غارق هو الآخر وسط الكتب، ويطل هناك تلفاز كان يتابع فيه الحلقات التى سجلتها معه حول التجديد فى الفكر والفقه الإسلامى، والتى وصلت إلى تسعين حلقة.

كان شجاعا جسورا، لا يهاب أحدا، ولا يخشى فى الحق لومة لائم. يتلقى التهديد والوعيد من خصومه مبتسما، هازئا بأولئك الذين لا يستطيعون أن ينفعوا حتى أنفسهم، فكيف يضرونه؟ ولم يكن لديه شىء يخسره. فلا منصب، ولا ثروة، ولا ولد. وحيد مرّ على الدنيا، وذهب عنها على حاله. كثيرا ما كان يقول إن بعض الذين يختلفون معه، ويقدحون فيه ويهاجمونه حين يسألهم الناس عن آرائهم فيما يقول، يتصلون به سرا معتذرين، ويقولون له:

لا تؤاخذنا فلدينا ما نخسره.. المناصب والأموال، وأصحاب الأنياب الطويلة لا يرحمون أحدا، طاردوا محمد عبده وعبدالمتعال الصعيدى، والحبل على الجرار. وكثيرا ما كان يبتسم ويقول: ما ينسبونه إلىّ لم أخترعه، فهو متواجد فى بطون كتب صفراء يحفظونها عن ظهر قلب، ويتلونها على أسماع الناس كما هى، ثم يستعين بقول زكى نجيب محمود ليصفهم بـ«الحفظة المتعالمين». وكنت أقول له: لِمَ تنزلق إلى فخ ينصبونه لك، وبعد أن تقع فيه يهيلون التراب على كل ما كتبت؟ فكان يجيب فى ثقة: «من يرد أن يعرفنى على حقيقتى فعليه أن يقرأ أكثر من مائة كتاب ألفتها». ثم يرفع هامته وينظر بعيدا ويقول:

«سيعرفوننى بعد خمسين سنة»، ويردف: «لست فقيها ولا مفتيا.. أنا كاتب». ويقرأ عن القصور والنساء والسيارات الفارهة التى يملكها تجار الدين فيضحك ويتساءل: «أين زهد العلماء والتقاة؟ وأين كتبهم التى تحوى رأيهم هم وليس ترديد آراء الغابرين كالببغاوات؟»، ويقرأ عن تخبط الحركة الإسلامية فى عوالم السياسة والاقتصاد والاجتماع فيقول: «نصحتهم وقدمت لهم دراسات وتصورات لكن عقولهم جامدة، ومصالحهم الشخصية تطمس عقولهم وقلوبهم». ثم يتوه قليلا ويعود:

«لو امتد الأجل بحسن البنا لغير الكثير من الأفكار، لكنه رحل مبكرا وتركهم يتخبطون». فى يومٍ حضر ندوة بالإسكندرية وكان بها باحثون كثيرون من ماليزيا وإندونيسيا، وأمامنا وجدناهم يقبلون عليه بحفاوة شديدة، ويذكرون عناوين كتبه التى طالعوها وراقت لهم، ورأيتهم فمصمصت شفتى فى مرارة وقلت: «زامر الحى لا يطرب».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية