رغم أن المفكر الإسلامى جمال البنا، هو الشقيق الأصغر لحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، إلا أنه يختلف مع فكر هذه الجماعة كلية، ويعد رائداً للفكر التنويرى الإسلامى، وله العديد من الآراء الفقهية التي أثارت، ولاتزال، الكثير من الجدل. قضى جمال البنا أكثر من ٦٧ عاما يقدم إبداعاته الفكرية، حيث صدر أول كتاب له بعنوان «ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد» عام ١٩٤٥، وفى العام التالى أي ١٩٤٦، أصدر كتابه الثانى «ديمقراطية جديدة»، ثم توالت مؤلفاته في الصدور حتى تجاوزت مؤلفاته ومترجماته ١٥٠ كتابا. عمل محاضراً في الجامعة العمالية والمعاهد المتخصصة منذ ١٩٦٣ وحتى ١٩٩٣، وعمل خبيراً بمنظمة العمل العربية.
ولنبدأ السيرة من مفتتحها، ففى إحدى المدن التي تقع في محافظة البحيرة وهى مدينة المحمودية التي تجمع بين طابعى الزراعة والتجارة، ولد جمال البنا، أصغر الأبناء الذكور لأحمد عبدالرحمن البنا الساعاتى، في ١٥ ديسمبر عام ١٩٢٠، وتم تسجيله في دفتر المواليد في ١٩ ديسمبر من العام نفسه وكان الأب يتمتع بعلو الهمة، ومما يذكر للأب أنه أوقف حياته على إنجاز مشروعه الضخم «تصنيف وشرح مسند الإمام أحمد بن حنبل»، ومن المدهش أن الأب أحمد البنا وابنه الكبير حسن البنا وابنه الأصغر جمال البنا ــ رغم انخراطهم بين التنظير والتنظيم الإسلامى، لم تطأ قدم أحد منهم الأزهر ولم يتعلموا فيه، وقد رفض جمال البنا الحياة البرجوازية المألوفة التي تبدأ بدخول الجامعة ثم الانخراط في وظيفة ثم الزواج وتكوين أسرة، فكان لديه الوقت الطويل الذي قضاه مع الأب والشقيق اللذين أيضاً كانا في حاجة إليه لمعاونتهما في بعض أعمالهما، وقد آنسا في طبعه الهادئ والمتمرد معاً شيئاً يقربه إليهما فكانت العلاقة المتميزة الطويلة، وكانت نقطة إعجاب جمال البنا بوالده وشقيقه هي فكرة ومبدأ «الرسالية» لدى هذين الرجلين من خلال رسالة كل منهما على حدة، حيث أخضع كل منهما حياته وأوقفها على رسالة يؤمن بها ويؤديها ويأخذ نفسه بالجد ليقوم عليها أتم قيام. أما علاقة «جمال» بوالده فتبدأ من كونها علاقة أب بآخر العنقود من الذكور السابق على آخر عنقود البنات «فوزية»، وفى هذا الوقت كانت الأسرة قد انتقلت من المحمودية الجميلة المريحة الواسعة ذات النهر الفسيح والشمس والسماء الصافية والبراح المفتوح والأفق الواسع، إلى أزقة القاهرة التي لا تدخل بيوتها الشمس أو النور وإنما الرطوبة والبرد.
وعندما ولد جمال البنا كان نحيفاً واهن الجسد، يسير بخطى متثاقلة ولم يكن يستطيع أن يلعب ويرتع، فالحارة الضيقة تحول دون ذلك كما أن صحته طفلاً لم تساعده على ذلك فانطوى على نفسه وأمضى حياته دون أن يركب دراجة، فكان المتنفس الوحيد هو القراءة، وكان والده يصطحبه معه وهو طفل إلى مكتبه ويجلس الأب للكتابة ويدعه في الصالة الخلفية للمكتب، وكانت مكتبة الوالد هذا الريفى السنى حافلة بالمجلات والصحف، فكان جمال يقلب فيها ويقرؤها، فقرأ «اللطائف المصورة» وقرأ القصص المترجمة وقرأ مجلة «الأمل» التي أصدرتها شابة ناهضة هي «منيرة ثابت» التي كانت أول من دعا لحق المرأة في الترشح لانتخابات البرلمان، ومنذ تلك الأيام كانت العلاقة بين جمال ووالده متصلة وحميمة حتى توفى الوالد، كما كان الأب يحب آخر أبنائه من الذكور والبنات فأحب «فوزية» و«جمال» وقد سمى ابنه «جمال» على اسم «جمال الدين الأفغانى» تيمناً به، وقد تأثر جمال البنا بوالده في كثير من الأشياء، منها أنه عمل فوق مستوى المذهبية بالعودة لفقه السنة لا فقه المذاهب، كما تأثر فيما يمكن وصفه بعصامية العلم والمعرفة.
ومن المدهش مثلا أن الوالد أحمد البنا وجمال البنا لم ينخرطا في جماعة الإخوان، ولم يزر الوالد مقر الجماعة إلا مرات معدودة فضلاً عما أخذه «جمال» عن أبيه من علو الهمة وتقشفه واقتصاره على ضرورات الحياة. أما عن علاقة جمال البنا بشقيقه الأكبر حسن فكانت متميزة وحميمة وكانت فيها جدلية نشأت من اختلاف الطبائع، وهو اختلاف يمثل تكاملاً، مع فارق أن حسن البنا نشأ وكبر في المحمودية فيما نشأ جمال في القاهرة رغم مولده في المحمودية.