الضجيج الذى يملأ الأرض يُعتبر لا شىء بالمقارنة بضجيج الدعوات التى تصطرع فوق الغلاف الجوى.
فى تلك البقعة من السماء، حيث الصفاء المطلق. هناك حيث الأزرق أزرق! والأبيض أبيض! تسبح ملائكة فى الأثير مُوكّلين بفرز الأدعية وترتيبها قبل أن يحملها الملاك الرسول إلى السماء السابعة. يحملها فى قلبه. وهناك عند قدس الأقداس يسجد الملاك فتخرج الدعوات الصالحات من قلبه كحمام أبيض..هناك عند ما لا يمكن وصفه أو حتى تخيّله.
لكن فرز الدعوات مهمة صعبة جدا. إذ إن معظمها يناقض بعضها بعضا.
تنهد الملاك وقال فى تعجب: «يا لك من إنسان عجيب يا أحمد!». فأسرع الملائكة ليعرفوا حكاية أحمد!
قال الملاك ذو الكيان الأثيرى الشفاف: «هذا هو أحمد».
وبسرعة ظهر على الأفق اللانهائى صورة هيلوغرافية متعددة الأبعاد لرجل أسمر اللون له ملامح مصرية ويبدو كوغد، وهو ينظر إلى الأمام فى أهمية.
قال الملاك: «كل البشر يحسون بالفخر ويشعرون بالأهمية». راحت الملائكة تنظر إلى بعضها البعض متعجبة. هؤلاء البشر محيرون فعلا! لماذا يشعرون أنهم مهمون وأنهم محور الكون، بالرغم من أنهم بالمقارنة إلى الكون العظيم ليسوا أكبر من نملة!
استطرد الملاك الموكّل بالفرز: «أحمد. محاسب شاب. عمره بتوقيتنا السماوى ثلاث ثوان. بتوقيت الأرض خمسة وثلاثون عاما. راتبه 2300 بالعملة المصرية التى توشك أن تتلاشى قيمتها الشرائية. يسكن فى بيت ضيق فى العمارات الشاهقة المتلاصقة التى لا توجد بها شرفة واحدة. آخر مرة نظر فيها إلى السماء منذ عشرة أيام عندما رفع بصره لمشاهدة فتاة جميلة تنشر الغسيل وهو فى طريقه للعمل».
تساءل أحد الملائكة:« ماذا عن الدعاء؟ هل ثمة تضارب؟».
قال الملاك الموكل به: «يرفع الكثير من الدعاء ضد مديره فى العمل الذى يضايقه».
وضغط الملاك على إحدى السجلات المرئية: «فظهر أحمد وهو يدعو: «حسبى الله ونعم الوكيل فيك يا عاطف».
قال الملاك مفسرا: «عاطف هو مديره». قالت الملائكة: «حسنا. ارفع الدعاء فربما يكون مظلوما».
ابتسم الملاك وكأنه يقول إن الأمر ليس بهذه السهولة. ضغط على سجلّ آخر، فظهرت امرأة تدعو عليه: «حسبى الله ونعم الوكيل فيك يا أحمد». قال الملاك: «هذه زوجته. ضربها!». ضغط على زر آخر فظهرت فتاة تبكى بحرقة: «حسبى الله ونعم الوكيل فيك يا قذر». قال الملاك مفسرا: «بنت تحرش بها أحمد فى زحام المواصلات. أحمد يركب الحافلات من وقت لآخر لهذا الغرض فحسب».
بدا الكدر على وجوه الملائكة وقال أحدهم: «يا له من وغد». لكن ظهرت صورة امرأة عجوز تدعو فى حماسة: «ربنا يكرمك يا ابنى ويسلّم طريقك». قال الملاك متعجبا: «هذه سيدة كبيرة السن ساعدها أحمد فى عبور الطريق قبل أن يركب نفس الحافلة التى تحرش فيها بالفتاة».
وتوالت الصور: دعوات له ودعوات عليه. والبشر يتشاجرون بالدعاء كما يتشاجرون بالمناكب. قالت الملائكة فى حيرة: «يا له من مزيج الخير والشر! هذا الكائن العجيب الذى يُدعى (الإنسان)».
وتحيروا قليلاً ثم قالوا: «ليس أمامك سوى أن ترفع الدعوات كما هى».
وكان الكوكب الأزرق يدور فى الفضاء كزمردة! وشعاع الشمس ينسكب على المحيطات الهائلة التى تكون أربعة أخماس الأرض، فينبض الماء بسحر لازوردى. كوكبنا الأزرق، أجمل كواكب العالم، تتأمله الملائكة وتعجب منه: «هل يوجد فى الكون جمال كهذا؟!».