رغم أننى أنتمى لجيل يوليو 1952 ولا أخفى إعجابى بزعامة «عبد الناصر» أو احترامى لحنكة «السادات» إلا أننى أعترف أيضًا بعشقى لتاريخ «الأسرة العلوية» التى بدأت بولاية «محمد علي» عام 1805 وانتهت بإعلان الجمهورية عام 1953، ولا شك أن حكم تلك الأسرة - الذى امتد لقرابة قرن ونصف - قد ترك بصماته الكبرى على «مصر الحديثة» والتى بلغت أوج ازدهارها مع فتوحات «محمد علي» وإنجازاته الضخمة، مرورًا بـ«الخديو إسماعيل» الذى يعتبر رمز التحضر الذى حاول استقدام «أوروبا» ما بعد «عصر النهضة» إلى «مصر» محاولاً أن يجعل من عاصمة بلاده قطعة من منها، وصولًا إلى «الملك فؤاد» الذى كان – رغم جهامته وضعف لغته العربية – مرتبطًا بالفترة «الليبرالية» فى حكم «مصر» التى بدأت بعد إعلان 28 فبراير 1922 وتواكبت مع سقوط آخر خليفة عثمانى حيث مارست «مصر» نوعًا من الاستقلال الذاتى رغم وجود قوات «الاحتلال البريطاني» التى أعادت توزيعها وحددت مواقع انتشارها معاهدة 1936 التى وقعها «النحاس باشا» زعيم «الحركة الوطنية» ووريث «سعد زغلول» باشا، نقول هنا إن هناك أيادى بيضاء لعصر «الملك فؤاد» بدءًا من إنشاء «الجامعة المصرية» الذى كان هو أول رئيس لمجلس إدارتها، مرورًا بسلسلة «المتاحف» و«المساجد» و«الكنائس»، وقيام الجمعيتين الملكيتين «الجغرافية» و«التاريخية»، وصولاً إلى المؤسسات المختلفة فى مجالات الحياة المتعددة، وليس يعنى ذلك أن كل السابقين للفترة «الليبرالية» لحكم «فؤاد» و«فاروق» كانوا خونة أو عملاء فباستثناء «محمد توفيق» الذى يستحيل الدفاع عنه نجد أن «الخديو سعيد» قد ارتبط اسمه بـ«اللائحة السعيدية» التى ملكت الأرض للفلاح المصرى،
كما أن الخديو «عباس حلمى الثاني» كان وطنيًا معاديًا لـ«الإنجليز» وداعمًا لـ«مصطفى كامل» ورفاقه، فنحن أمام سلسلة من الولاة والملوك بدأت بـ«محمد علي» رجل الدولة الأول فى تاريخنا الحديث والذى خلفه على حياة عينه ابنه «إبراهيم باشا» الذى يعتبر «أب العسكرية المصرية» حيث لا نكاد نشعر بـ«عباس حلمى الأول» أو السلطان «حسين كامل» أو غيرهما من الشخصيات الباهتة فى سياق من تولوا السلطة داخل تلك الأسرة الحاكمة التى ملأت الدنيا وشغلت الناس كما يقولون، ولابد أن نقدر هنا اهتمام «سعيد» و«إسماعيل» بحفر «قناة السويس» التى أصبحت علامة ترتبط بشخصية «مصر» الدولية وتعتبر واحدة من أهم مصادر الدخل القومى للبلاد، ولقد ارتبطت منذ سنوات طفولتى ثم دراستى للدكتوراه بتلك الحقبة وتمنيت لو أننى عشت فى تلك الفترة «الليبرالية» (1922- 1952) وتعلقت بـ«الطربوش» كغطاء رأس ينزلق إلى الخلف مثل «عبد الرحمن باشا عزام» أو يتدلى إلى الأمام ليخفى نصف الجبهة مثل «محمد محمود» باشا وتخيلت لو أننى واحدا من «باشوات» ذلك العصر، بل امتد طموحى كى أكون «رفعة الباشا» كما استهوانى لقب «صاحب المقام الرفيع» الذى حمله عدد قليل من ساسة ذلك الزمان، وأتذكر أحيانًا نائبًا من بدو «محافظة البحيرة» هو الشيخ «الشافعى أبو وافية» عندما وقف فى «البرلمان» رافضًا صرف تسعة عشر ألف جنيه من ميزانية الدولة لشراء مقتنيات ولوازم منزلية لقصر «الملك فؤاد» فتستجيب الأغلبية لما رآه نائب «الدلنجات» من رأى حر وموقف شجاع، لقد حفلت تلك الفترة بالمشاهد التى توحى بأن «مصر» كانت كيانًا رائعًا رغم أننا لا ننكر أن المجتمع كان إقطاعيًا فى سمته، ولا ننكر تسميته بمجتمع النصف فى المائة، ولكن ذلك لا يجب أن يكون حائلًا دون إقرار عدد من الحقائق أولها أن الأسرة الحاكمة وزعت أدوارها لدعم المجتمع المدنى الذى كانت بدايته مع إنشاء «جمعية التوفيق القبطية» و«الجمعية الخيرية الإسلامية» فى الربع الثالث من القرن التاسع عشر فنجد أسماء لامعة مثل الأمراء «عمر طوسون» و«عباس حليم» و«يوسف كمال» وهى أسماء لشخصيات مصرية وزعت أدوارها فى خدمة «مصر الحديثة» بشكل ملحوظ، ونجد أن الأميرة «فاطمة إسماعيل» قدمت الأرض التى قامت عليها «الجامعة المصرية» ثم باعت «مجوهراتها» لتأسيس الجامعة وكلياتها الوليدة كما أن الأميرات من أسرة «محمد علي» قد تفرغن للعمل الخيرى فارتبطت أسماؤهن بـ«المبرات» والمستشفيات والمدارس، وعلى سبيل المثال فإن مستشفى «هليوبوليس» بـ«مصر الجديدة» هو مستشفى «الأميرة فـريال»، وخلاصة ما أريد أن أصل إليه من هذه السطور هو أنه ينبغى علينا أن نتعامل مع تاريخنا الوطنى بقدر كبير من العدالة والتوازن وألا نمضى وراء مواقف حدية ترى الحياة السياسية أبيض أو أسود فقط إذ إن واقع الأمر يوحى بدرجات متفاوتة بين الطرفين ويؤكد أن لكل عصر مزاياه وعيوبه ولكل فترة تاريخية رموزها الساطعة ونجومها اللامعة، وأحسب أن تلك الفترة التى أشيد بها وهى الفترة «الليبرالية» فى الربع الثانى من القرن العشرين هى فترة تستحق الدراسة والتأمل بكل ما لها وما عليها، إنها فترة ازدهار «شوقي» و«حافظ» و«أحمد لطفى السيد» و«سلامة موسى» و«العقاد» و«طه حسين» و«توفيق الحكيم» وسهرات «أم كلثوم» وروائع «عبد الوهاب»، بل إن «فاروق» بفساده ولهوه كان حاكمًا وطنيًا يرضخ لمطالب الشعب عند اللزوم، ولقد تحول منذ 4 فبراير 1942 إلى حاكم يمقت «الاحتلال البريطاني» وربما يتعاطف مع «ألمانيا النازية» و«إيطاليا الفاشية» كراهيةً فى من احتلوا بلاده وقهروا إرادته مع حساسية ملحوظة تجاه حزب «الوفد» وزعيمه «النحاس» باشا حتى دعم القصر الملكى وخصوصًا «أحمد حسنين» باشا رئيس الديوان الملكى حركة الانقسام داخل ذلك الحزب الكبير، وتعاطفوا مع «مكرم عبيد» باشا و«كتابه الأسود»، كما تعاونوا مع «الإخوان المسلمين» الذين كانوا يتزلفون للعرش ويتملقونه بمناسبة أو بغير مناسبة فهم أصحاب الهتاف الشهير (الله يحب الملك) والهتاف الآخر قبيل الانتخابات (صوت للنحاس.. صوت ضد الإسلام)، ولعلنا نتذكر كراهية «فاروق» للمفكر الكبير «عباس محمود العقاد» الذى قال - تحت قبة البرلمان - إنه مستعد لسحق أكبر رأس فى البلاد إذا داست على «الدستور»، وكذلك تردده عند تعيين عميد الأدب العربى الدكتور «طه حسين» باشا وزيرًا لـ«المعارف العمومية» عند عودة «الوفد» إلى الحكم بانتخابات 1950 بعد غيبة طويلة عن مقاعد السلطة، إنه عصر طوى أوراقه وجمع أغراضه، ودخل فى خزانة التاريخ بثورة يوليو 1952 التى كان لها بالتأكيد ما يبرر قيامها ولكنها أيضًا غيرت وجه البلاد وكان لها ما لها وعليها ما عليها، وهنا ألفت انتباه الأجيال الجديدة إلى ضرورة الابتعاد عن الأحكام الحادة والمواقف الشخصية عند قراءة تاريخ «مصر»، إذ إن الإشادة ببعض مظاهر الفترة «الليبرالية» لا تعنى إطلاقًا القيام بحملة على «عبد الناصر» ذلك البطل القومى الأبرز فى تاريخنا الحديث، كما أن الإشادة بـ«عبد الناصر» لا تعنى بمفهوم المخالفة حملة أخرى على «أنور السادات» رجل الدولة وصاحب قرارى الحرب والسلام، فتاريخنا سلسلة متصلة الحلقات لذلك يتعين أن يكون تقييمنا موضوعيًا وأن نتوقف عن «الشخصنة» عند تحليل أحداثه ومواقفه.. إنه تاريخ الأمة «المصرية الحديثة» فى «الدولة العصرية» القائمة والتى تحيط بها المخاطر من كل صوب وحدب ويستهدفها الحاقدون من كل اتجاه، لكِ الله يا «مصر» فأنت «شمس» لن تغيب أبدًا!