x

جمال أبو الحسن ماذا تخبرنا دراما «تحت السيطرة» عن إيران؟ جمال أبو الحسن الأحد 19-07-2015 21:58


تابعتُ خلال الأسابيع الأخيرة مسلسلين دراميين على درجة عالية من الإثارة والتشويق. الأول جرى في الواقع، والآخر خلف الشاشة الصغيرة. الأول من بطولة جون كيرى وجواد ظريف، والثانى من بطولة نيلى كريم. الأول انتهى باتفاق قيل إنه تاريخى وأنه سيجعل العالم أكثر أمناً. الثانى انتهى بحلقة أبكت الجمهور وأبقت بابَ الأملِ مُشرعاً أمام المُعذبين والحزانى.

«تحت السيطرة» كان المسلسل الأبرز في رمضان هذا العام. السبب لا يكمن فقط في جدة الموضوع ودقة الصنع وإجادة الأداء. السبب الرئيسى هو أن طاقم العمل، وعلى رأسه المؤلفة الموهوبة مريم ناعوم، جعلونا نعايش فعلياً- وربما لأول مرة في الدراما العربية- مأساة المُدمن. لا يكفى أن نعرف أن المُدمن يئن تحت وطأة قوة قاهرة تفوق قدرته على السيطرة والتحكم. لا يكفى أن نراه واقعاً تحت سيطرة هذه القوة الهائلة بلا سبيل للخروج. كان مطلوباً أن نفهم أزمة المدمن على وجهها الصحيح: أنه شخصٌ أدخل نفسه في دائرة شيطانية بكامل إرادته. أن عليه أن يُكابد الندم والألم الأبدى، وأن يعيش مع وصمة عار تُلازمه طول حياته.

المدمن مريضٌ مُزمن. لا شفاء كاملاً من الإدمان. التعافى هو حالةٌ مستمرة من المكابدة النفسية والسعى إلى التكيف، مع النفس ومع الآخرين. الانتكاس يظل شبحاً مُقيماً لا يزول.

الولوج إلى فخ الإدمان- وكما تابعنا في المسلسل- يتطلب أصنافاً مختلفة من الحيل النفسية التي يمارسها المرء على ذاته، قبل الآخرين. أشهر هذه الحيل هي الاقتناع بالقدرة على تنظيم عملية التعاطى للحد من خطرها (المسلسل أشار إليها بلفظ «أهاندل» أي أتحكم في التعاطى بما يُقلل الضرر). ويُعد هذا الاقتناع جوهرياً لنفسية المُدمن الذي لابد أن يكون قد رأى بنفسه ما قد صار إليه مصير من سبقه من المدمنين. هو يُقنع نفسه بأن بإمكانه تجنب هذا المصير عبر الإبقاء على عملية التعاطى «تحت السيطرة». لنضع الأفكار السابقة في أذهاننا لأننا سنعود إليها لاحقاً.

الآن.. لنتأمل قليلاً في «الدراما الدولية» التي تتابعت فصولها لشهور، ثم اكتملت في فيينا قبل أيام بتوقيع اتفاق بين القوى الغربية وإيران بشأن برنامجها النووى.

أي اتفاق دبلوماسى، مهما تشعبت تفاصيله وتعقدت بنوده، يرتكز على منطق سياسى حاكم. المنطق السياسى في هذا الاتفاق هو التوافق حول مُقايضة كبرى: تأجيل طموح إيران النووى لعشرة أو خمسة عشر عاماً في مُقابل القبول بها عضواً طبيعياً في الأسرة الدولية.

ما الذي يعنيه ذلك بالضبط؟ هل إيران صارت دولة نووية أم أن طريقها للحصول على القُنبلة صار مُغلقاً كما قال الرئيس الأمريكى؟

الحقيقة أن النتيجة مُلتبسة للغاية. الإيكونوميست اعتبرت أن الاتفاق وإن لم يكن مثالياً، فهو يظل أفضل من كل البدائل الأخرى (الحرب أو الاستمرار في العقوبات). مغزى وضع أفق زمنى للاتفاق هو الإقرار- ضمنياً- بأن إيران دولة عتبة نووية.. أي أن في إمكانها- أو سيكون بإمكانها بعد انقضاء مدة الاتفاق- أن تحصل على السلاح النووى متى أرادت ذلك. الإقرار بهذا المآل سيغير الشرق الأوسط. إيران لا تحتاج القنبلة لتضرب بها إسرائيل كما يحاول «نتنياهو» إقناع العالم. طهران تسعى وراء القنبلة لأنها- بالفعل- أفضل «مظلة واقية» يُمكن أن يتحرك تحتها النظام في الداخل والخارج.

في الداخل، ليس لنظام الملالى إنجازات تُذكر. خامنئى وزمرته نجحوا في إقناع الإيرانيين بأن القنبلة هي مشروعهم الوطنى الأكبر. القنبلة هي «وثيقة تأمين» لاستمرار ثورة تآكل بريقها في أعين الجمهور. أما في الإقليم، فما تباشره إيران اليوم من سياسات تخريبية في الدول العربية- من دون امتلاك القنبلة- يُمكن أن يتضاعف عشر مرات إذا ترسخ الانطباع بأن إيران بسبيلها لأن تحوزها. مهمٌ أن نتذكر أن السلاح النووى ليس للاستخدام، وإنما هو «مظلة» تجعل النظام في مأمن من العقاب الرادع من القوى الدولية مهما ساء فعله أو انحرف سلوكه.

ما علاقة هذا بالدراما الرمضانية؟

واقع الحال أن الاتفاق كان محاولة لوضع «إدمان» إيران على اليورانيوم «تحت السيطرة»، عبر رقابة دولية صارمة. إنها عملية- مثل تنظيم التعاطى- تنطوى على مقامرة كُبرى. السبب الرئيس هو طبيعة المدمن نفسه؛ أي إيران!

إيران هي أكبر «مدمن» في الشرق الأوسط. هي مدمنةٌ منذ عام 1979 على الهيمنة والطائفية وتصدير الثورة. منذ سنوات، أضافت للقائمة اليورانيوم والماء الثقيل ومحولات الطرد المركزي!. إنه مرضٌ مزمن كذاك الذي ابتُلى به مدمنو مسلسل «تحت السيطرة». هو إدمانٌ مُركبٌ في نسيج نظام الملالى نفسه، تماماً كما يمتزج المُخدر بكيمياء المخ والجسد. ما زال هذا النظام يفضل العيش كثورة مستمرة لا كدولة طبيعية. ما زال يتعاطى حبوب مُجابهة «الاستكبار» العالمى وحماية المستضعفين. ما زال يحقِن شعبه مُخدرات ولاية الفقيه وهلوسات الإمام الغائب.

كما شاهدنا في المسلسل الرمضانى، علاج الإدمان رحلة من العذاب. فُرص الانتكاس أكبر من احتمالات التعافى. الاقتناع بإمكانية «تنظيم الإدمان» هو ضربٌ من الوهم. أما التعافى فيستلزم إرادة حقيقية للتغيير لدى المُدمن.

لم تُعطِ إيران إشارة واحدة على امتلاكها لهذه الإرادة. الإقلاع عن «إدمان تصدير الثورة» يفترض تغييرات جوهرية في طبيعة نظام الجمهورية الإسلامية نفسه. من أسفٍ أن الاتفاق النووى الأخير منح هذا النظام مدداً جديداً من الشرعية بما يجعل التغيير أصعب وأبعد احتمالاً. ستخبر الأيام إن كانت محاولة وضع إيران «تحت السيطرة» ستنتهى بالتعافى كما حدث مع مريم (نيلى كريم) في المسلسلة الرمضانية، أم يكون الانتكاس هو الاحتمال الأقرب للحدوث.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية