التفاوض امتحان «يكرم فيه المرء أو يهان»، فإذا كان من أجل حل خلاف أو تسوية صراع بين دول، فإن قوة كل دولة في الداخل والأوراق التي تمتلكها في الخارج هي التي ستؤثر في مسار التفاوض ونتائجه.
والحقيقة أن معركة التفاوض الكبرى التي خاضتها كل من إيران واليونان، الأسبوع الماضى، من أجل تسوية خلافاتهما العميقة مع القوى الكبرى لها دلالة بالغة، فرغم أن الدولتين مختلفتان في أمور كثيرة وعميقة، بما فيها طبيعة خلافاتهما مع الدول الكبرى، إلا أن نجاحهما الكبير في التوصل لاتفاق مع دول الاتحاد الأوروبى بالنسبة لليونان، ومع الدول الست الكبرى بالنسبة لإيران، أمر يثير الإعجاب والاحترام.
فالمفاوضات الشرسة التي دارت بين المفاوضين الإيرانيين ومندوبى الدول الست الكبرى، وأسفرت بعد 21 ساعة من الحوار المضنى عن اتفاق بين الجانبين، بعد أن وظف كل جانب مهاراته الدبلوماسية للوصول إلى اتفاق يحقق ولو الحد الأدنى من طموحاته، دلت على أن التفاوض هو النهاية الطبيعية لأى صراع مهما كان.
أما اليونان فقد قاد رئيس وزرائها اليسارى أليكسيس تسيبراس واحدة من أهم المفاوضات التي شهدتها أوروبا منذ عقود، وهو نموذج يدرس في مستوى جديد من القيادات السياسية اليسارية يختلف عن كثير من «الهتيفة» في بلادنا، الذين يعتبرون اليسار هو مجرد صراخ على مواقع التواصل الاجتماعى، وجلسات التنظير في المقاهى باسم الجماهير التي لم يعرفوها.
بالمقابل فإن تجربة رئيس وزراء اليونان الذي ينتمى لليسار تعبر عن حالة جماهيرية حقيقية في بلد صغير هو اليونان (12 مليون نسمة) متوسط الإمكانات بالمعنى العالمى وضعيف بالمعايير الأوروبية رغم تاريخه وحضارته العريقة.
وقد بدأت مشكلة اليونان حين قامت حكوماتها السابقة بتزوير الأوراق التي تقدمها للاتحاد الأوروبى، والخاصة بحجم إنفاقها العام والإصلاحات الاقتصادية المطلوبة منها، وهو ما أدى إلى تراكم ديونها وعجزها عن تسديدها.
وجاء رئيس الوزراء الجديد تسيبراس، ورغم انتمائه لليسار الماركسى إلا أنه ظل مقتنعاً بأن بقاء بلاده في منطقة اليورو على عيوبها (يرفضها من الناحية الأيديولوجية) أفضل من الخروج منها، وذلك بعد تحسين شروط البقاء فيها.
وقرر الرجل أن يدخل في تفاوض جديد مع دول الاتحاد الأوروبى بعد أن بحث عن أوراق قوة جديدة، فدعا الشعب اليونانى إلى الاستفتاء على الشروط القاسية التي وضعتها أوروبا لإخراج اليونان من أزمتها الاقتصادية، فكانت النتيجة هي رفض 61% من اليونانيين للشروط الأوروبية، وهو يعتبر انتصارا ساحقا لـ«لا» في بلاد اعتادت أن تكون نتيجة الأغلبية أو الفوز فيها لا تتجاوز الـ52 أو 53%.
وقد أدى توظيف رئيس الوزراء اليونانى لجمهور واسع من أبناء شعبه، يتجاوز أنصاره وجماهير حزبه في معركته التفاوضية مع الاتحاد الأوروبى، إلى مراجعة الأخير لشروط الاتفاق الذي وضعته مع اليونان وتحسينها بعد نتيجة الاستفتاء.
النظام السياسى في اليونان حرك جماهير شعبه لصالح تحركاته الخارجية وأدخله طرفاً بمهارة شديدة في معادلات التفاوض مع أوروبا، فلم يورطه في حرب ولا في عدوان ولا في قرارات عنترية غير محسوبة، إنما في معركة تفاوض حسبها الرجل بالسنتيمتر وانتصر فيها.
أن توظف أوراقك من أجل التفاوض هو قمة التحضر وقمة المهارة، وهى أمور قدمت فيها كل من اليونان وإيران خيرة نجاح رغم الفروقات الكبيرة بينهما، وهى تدل على أن هناك بلاداً ترغب في أن تتقدم وأن تنجز، لا أن تظل مكانها بلا عقل سياسى ولا رؤية للمستقبل.