x

اخبار الإعلام المرئى والثقافة اخبار الخميس 28-05-2015 21:50


د. سهير الدفراوى ـ تكتب:

عند عودتى إلى مصر- بعد أكثر من 30 عاماً فى الولايات المتحدة درست فيها فى كلية الطب وعملت مديرة فى شركة دواء عالمية، وتطوعت كثيراً لمجتمعى- هالنى التغيير الذى حدث فى مصر، وكان تشخيصى لما أصابنا أنه تغيير ثقافى ناتج عن أننا قد أضعنا اعتزازنا بأنفسنا، فألفت برنامج أنشطة يغرز فى الأطفال الاعتزاز بالنفس عن طريق النظام فى العمل وتكوين الأهداف إلخ.. ويبنى الأخلاقيات والمهارات الحياتية والمواطنة التى تساعد الطفل عندما يكبر على أن ينجح فى حياته، ونتج عن تطبيقنا للبرنامج فى المدارس نجاح باهر، فزاد اهتمامى بدور الثقافة فى تقدم الشعوب.

من أشهر من كتبوا فى دور الثقافة فى تقدم الشعوب هو لورانس هاريسون الذى رأس هيئة المعونة الأمريكية فى أمريكا الجنوبية، حيث كانت تقدم المعونة للمشروعات المختلفة، ثم تقيم مفعولها، فوجد أن بعض البلاد تتقدم نتيجة للمعونة، والبعض الآخر لا يتقدم. كذلك، لاحظ أن فى ستينيات القرن الماضى كانت كل من كوريا الجنوبية وغانا تتشابهان فى كثير من أوجه اقتصادهما، ولكن بعد أقل من 30 عاماً اختلفتا، إذ أصبحت كوريا الجنوبية عملاقاً صناعياً، بينما لم تتقدم غانا كثيراً، وأصبح إجمالى دخلها القومى أقل من عُشر دخل كوريا الجنوبية! فتساءل: لماذا تتقدم بعض البلاد، ولا تتقدم بلاد أخرى؟ ونتيجة لملاحظاته الدقيقة توصل إلى عوامل فى ثقافة البلاد التى تنمو، مثل الادخار، والنظام، تجعلها قابلة للتنمية.. فما هى هذه العوامل؟

شدت هذه الأفكار اهتمام لورانس هاريسون وقرر أن يدرسها، فترك وظيفته فى هيئة المعونة الأمريكية والتحق بجامعة هارفارد كأستاذ زائر، وجمع فى مؤتمر كبير كثيراً من العلماء المهتمين بمفعول الثقافة على تنمية الشعوب، وأخرجوا معاً كتاباً مهماً فى هذا الموضوع، ثم عاود دراسته، ولقح أفكاره بأفكار عالم الاجتماع الأرجنتينى ماريانو جروندونا، وتوصل إلى عدة عوامل فى ثقافة المجتمعات- مثل سيادة القانون وقطر الثقة فى المجتمع- تجعلها إما قابلة للتنمية أو مقاومة لها.

والمعروف أن ثقافة الشعوب ليست متحجرة، فهى تتغير طبقاً للظروف التى تمر بها الشعوب، وهناك تجارب لتغيير أوجه من ثقافة مجتمعات، كالتجربة التى قامت بها الإكوادور لتغرز فى شعبها الانضباط فى المواعيد، والمعروف أن الأفضل للمجتمع أن يحافظ على الأجزاء المهمة فى ثقافته على أن يحاول استردادها بعد أن أهدرها. فلنذهب إلى ريس شونفلد، الاستشارى فى الإعلام المرئى، الذى ساهم فى تأسيس الكثير من محطات التليفزيون، وشارك تد ترنر فى تأسيس قناة (سى إن إن CNN) التليفزيونية الشهيرة.

يرى شونفلد أن التليفزيون عامل شديد التأثير فى ثقافة المجتمع، ويتفق معه فى هذا القول ماريانو جروندونا الذى يقول إنه عندما يكتب فى الجرائد يوافقه فى الرأى ويتأثر به من هو أصلاً يفكر مثله، أما عندما يظهر فى التليفزيون فيستطيع أن يغير فكر المتفرج الذى لا يوافقه فى الرأى. والعلوم الفسيولوجية- الطبية تؤكد كلام جروندونا، فالمعلومات المكتوبة تصلنا عن طريق الجهة اليسرى من المخ، حيث يتكون الفكر المنطقى، فيستطيع المخ أن يدرسها قبل أن يتقبلها، ولكن المعلومات التى تصلنا عن طريق الرؤية، مثل التى تأتى عن طريق التليفزيون، فهى لا تخضع للفكر المنطقى لذا نتقبلها بسهولة أكثر من المعلومات المكتوبة، فهذا دليل على قوة التليفزيون فى التأثير على المتفرج وفى تغيير ثقافة المجتمع.

والدول النامية التى مرت بثورة أو نالت استقلالها حديثاً عندما تستشير شونفلد ينصحها بأن تحتفظ الدولة بالقنوات التليفزيونية لمدة 20 سنة، وألا تسمح بقنوات تجارية لأن هدف هذه القنوات هو المال وليس الحفاظ على ثقافة المجتمع، فتقدم البرامج الهابطة التى قد تعجب الناس، وتأتى بالربح عليها فتضيع ثقافة المجتمع. ولكى تحافظ هذه الدول على مصداقيتها وتواصلها مع شعبها ينصحها شونفلد أنه فى مقابل عدم تقديم قنوات تجارية عليها أن تعطى لبرامج التوك شو كامل الحرية فى النقاش، وفى النقد الحر، القوى للحكومة ولغيرها.

ويقص علينا شونفلد أنه عندما رأت هيئة التليفزيون الصينى (سى سى تى فىCCTV) أن التليفزيون التجارى (إن دى تى دىNDTV) يقدم أفلاماً أمريكية قديمة قد تؤثر على ثقافة الجزء من المجتمع الصينى الذى يتابعها أقنعت هيئة القمر الصناعى (يوتلسات Eutelsat) التى تستضيف قناة (إن دى تى دى) أقنعتها بأن تلغى الإرسال، ثم ذهبت إلى (Population Council International) وهى هيئة أمريكية، متصلة بالأمم المتحدة وتخرج أفلاماً ذات رسالة اجتماعية مستترة، وشاركتها فى إخراج مسلسل صينى نال نجاحاً هائلا. هكذا نرى أن الصين التى تعرف أهمية الثقافة للتقدم حافظت على ثقافتها ضد الغزو الثقافى الأجنبى عن طريق استعمال أفكار وتكنولوجيا أجنبية.

فماذا هو حالنا فى مصر؟

حالنا مؤسف، فأولاً نحن لا نقدر أهمية دور التليفزيون والإعلام المرئى فى التأثير على ثقافتنا، وأن استحواذ رجال الأعمال على قنوات التليفزيون يعد قنبلة موقوتة ستنفجر فى أول أو ثانى انتخابات برلمانية.

وثانياً، قلة تمويل القنوات الحكومية تضطرها أن تنافس القنوات التجارية فى جلب الإعلانات وتقديم البرامج الرديئة، وبذلك أصبحت تساعد هى أيضاً على إهدار الثقافة. وحل هذه المشكلة قد يكمن فى إيجاد تمويل عن طريق ترخيص سنوى لأجهزة التليفزيون وأطباق الأقمار الصناعية كما هو الحال فى بلدان كثيرة، وهذا سيتطلب أيضاً تغييراً فى هيكلة وكفاءة إدارة التليفزيون.

وثالثاً، تحت ستار أن الفن يصور الحقيقة أصبحت الأفلام والمسلسلات تعيد وتزيد فى تقديم ألفاظ وتصرفات من قاع المجتمع، فبهذا التكرار هى لا تقدم صوراً حقيقية للمجتمع بقدر ما تساعد على تلقين وانتشار أكثر ثقافة متدنية فى المجتمع، وكخطوة أولى لحل هذه المشكلة لا أشجع المزيد من العمل الرقابى الرسمى على الإعلام المرئى أو التليفزيون، ولكننى أشجع توعية منتجى ومقدمى المواد الإعلامية المرئية بأهمية دور ما يقدمون فى تغيير ثقافة الشعب، وأشجع الشراكة مع هيئة دولية مثل اليونيسيف فى هذه التوعية.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية