x

في كتاب «أحلام عولمية»: حين يصبح الناس بشارع سليمان باشا ينطقون العربية فقط

السبت 21-01-2012 15:42 | كتب: مصطفى علي |
تصوير : other

«بعد تأميم قناة السويس عام 1956 أصبح واضحًا أن الحُكم في مصر يتجه إلى أعلى درجات المركزية، بتمصير المشروعات الاقتصادية الأجنبية، وكان هذا مقدمة لعمليات تأميم الشركات والمؤسسات، لتحقيق هدف يبدو أنه كان يسيطر على وجدان المصريين منذ نهاية القرن الثامن عشر وهو تمصير الدولة، ولأمر آخر يتجسد في تجربتَي محمد علي وجمال عبد الناصر، وهو ارتباط التمصير بمركزية الحكم.

هذا هو مدخل الطبعة العربية من كتاب «أحلام عولمية: الطبقة والجندر والفضاء العام في القاهرة الكوزموبوليتانية»، التي صدرت مؤخرًا عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة من تأليف «آنوك دي كونينج»، وترجمة أسامة الغزولي.

وحسب المترجم، فإن الكتاب يُعالج «الانتماء الكوزموبوليتاني» كما يتجسد، مثلا، في «الكوفي شوب» القاهرية الراقية، وفي جمهورها المنتمي للطبقة المتوسطة العليا وفي لغتهم المهجّنة وملابسهم المستوردة الثمينة ولغة أجسادهم وخلفياتهم التعليمية وأوساطهم الأسرية والاجتماعية و في ارتباطهم بثقافة العولمة واقتصادياتها».

ويتجسد هذا الانتماء أيضًا في «الكوفي شوب» ذاتها، في كونها حلقة من سلسلة دولية، ملتزمة بأسلوب معين في المظهر الخارجي وفي التصميم الداخلي وفي قائمة الأطعمة والمشروبات، وفي الاسم الإفرنجي للكوفي شوب والنظافة والالتزام بالصحة العامة ونوعية الزبائن.

ويرى المترجم أن إشارات «كونينج» المتكررة إلى النخبة القديمة، التي سكنت وسط البلد، يبدو فيه تأثرها بما جاء في رواية علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان»، وما يدور من ثرثرات في مقاهي وسط البلد، لكن الحقيقة أن النخبة التي احتلت ذلك الجزء من المدينة منذ أيام الخديو إسماعيل وحتى ذروة تجميد الإيجارات السكانية في زمن التأميم والتمصير في القرن العشرين، انهارت مكوناتها المحلية وهربت مكوناتها الأجنبية الغالبة والمهيمنة.

كانت منطقة وسط البلد فعلا ساحة للنخبة، التي أشار إليها «هنري كورييل» باسم «الحي الأجنبي»، ويروي «مارسيل إسرائيل»، مؤسس تنظيم «إيسكرا- الشرارة» الشيوعي وأحد الذين هجروا تلك المنطقة، أن صديقًا له أوربيا هجر وسط المدينة هو الآخر، حكى له مستعجبًا: تصوَّر أن الناس في شارع سليمان باشا لا يتكلمون إلا العربية؟ فيما بعد حَمَل شارع سليمان باشا اسم «طلعت باشا حرب»، مؤسس الاقتصاد المصري ورائد الصناعة الوطنية في عشرينيات القرن العشرين.

تلك النخبة القديمة، التي رحلت، حلَّت محلها نخبة جديدة وُلدت من رحم البيروقراطية، التي أدارات المؤسسات الصناعية والتجارية المؤمَّمة، واحتلت المراكز العليا والمتوسطة، أيام رأسمالية الدولة التي أسماها جمال عبد الناصر «الاشتراكية العربية»، لأنها كانت، حسب الكتاب، «رأسمالية ذات ضمير اجتماعي وتوجه وطني وعروبي مناهض للاستعمار والصهيونية»، وهؤلاء تحديدًا هم الذين يُركز الكتاب عليهم وعلى أسلوب حياتهم ونزوحهم لمستوطنات صحرواية جديدة حول القاهرة، ضمن ما يُقال إنه نزوح مصري عام إلى خارج كوردونات المدن القديمة.

وهذه الفئة هي المهنيون من الطبقة المتوسطة العليا في القاهرة، الذين تزيد نسبتهم قليلا عن 5% من سكان القاهرة الكبرى، أي أن عددهم لن يزيد بأي حال عن مليون من البشر من بين أكثر من ثمانين مليونًا.

يرصد الكتاب كذلك بروز الطابع الإسلامي في السلوك العام لدى المصريين، في حدوده الوظيفية، أي كعامل للتقريب بين الطبقات ولتخفيف حدة التغريب في السلوكيات الاستهلاكية للمصريين، سواءٌ من حيث استهلاك السلع والخدمات أو الاستهلاك أو الأماكن السكنية والمواقع السياحية والترفيهية.

وكان صعود التيارات الإسلامية، وكذلك كل أشكال التدين القاعدية، موضع جدل ساخن في مصر، وحاز قدرًا كبيرًا من الاهتمام في الجامعات و«الميديا» في الغرب، ولكن المؤلفة، وعلى ما يبدو هي وحدها، لا ترى أن الإسلام السياسي والتسيّد الزائد للخطابات الدينية مهيمن بحيث يكون هو المصدر الوحيد للتماهي والتنافس الاجتماعي.

فالطبقة حقيقة يومية طاغية في القاهرة، سواء من حيث التفاوتات الاجتماعية الشاسعة فيما بين القاهريين أو بسبب الارتباطات القوية بين الطبقة والثقافة، ونادرًا ما عُولجت هذه التعبيرات والتنافسات الطبقية في المشهد الديني المنقسم في القاهرة. 

إن قصص الحياة اليومية في قاهرة الطبقة المتوسطة تنم عن التحول الأكبر في مصر، من دولة تنموية إلى دولة «نيوليبرالية»، فهذه القصص ترسم خريطة الآثار التي ترتبت على الانتقال من اقتصاد وطني تحكمه المشروعات العامة وتوجيهات الدولة إلى اعتماد على القطاع الخاص والتكامل مع الشبكات العولمية.

الأمر الذي نتج عنه تفاوتات اجتماعية، إذ أصبحت المساحة المدينية في القاهرة موسومة بدرجة عالية من التقسيم إلى قطاعات مجالات الإنتاج والاستهلاك، فأصبح معظم القاهريين مجبرين على النواتج والخدمات التي تؤمنها أسواق غير رسمية للاستهلاك والترفيه، تتناسَبْ وقدراتهم الشرائية المحدودة.

وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي أشارت التقديرات إلى أن نصف سكان القاهرة يعيشون في عشوائيات، وهي مناطق الطبقة المتوسطة الدنيا، غير المخططة أو المرخصة، التي تمتلئ بالمساكن غير المرخصة والمهن غير الرسمية لسكانها، ناهيك عن عدم توفر الخدمات الأسياسية فيها بشكل شرعي.

لكن مثل هذا التقسيم لا يعتبر تقسيمًا نهائيًا، حيث كل منطقة تضم سكانًا متنوعين، فحتى في مناطق الطبقة المتوسطة العليا، كالزمالك، يوجد سكان من الطبقة الدنيا ومحال ومقاهٍ شعبية، في حين أن منطقة شعبية خالصة، كالحسين، تضم تجارًا ورجال أعمال ميسوري الحال.

الكتاب يتصوَّر قاهرة أخرى، تناسب الأجندة «النيوليبرالية» في مصر، عن طريق إعادة تخيل جديد للأمة، وتنميتها ومستقبلها، وبالتالي يصبح بدهيًا أن تُطرح أسئلة من عينة «من ذا الذي سيصبح الوريث الشرعي لهذه الرؤى الجدية للأمة، ومن ذا الذي يملك بالتالي الحق في إدارة مواردها؟».

مؤلفة الكتاب «آنوك دي كونينج»، حاصلة على الدكتوراه من جامعة أمستردام، وهي واحدة ممن شاركوا في تأليف كتاب «القاهرة الكوزموبوليتانية: السياسة والثقافة والفضاء الحضري في الشرق الأوسط المُعولم الجديد»، الذي حرره كل من «ديان سينجرمان» و«بول عمار».

أما المترجم أسامة الغزولي، صحفي ومترجم، نقل عددًا من الكتب عن اللغتين الروسية والإنجليزية إلى العربية، بالإضافة إلى ترجمات صحفية على نطاق واسع.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية