ما هى علامات التأثير الإيجابى للرشدية اللاتينية فى أوروبا؟
يمكن القول بأن أعظم تأثير لابن رشد فى عصر النهضة كان قائماً فى مجال علم النفس، وبالذات فى نظرية طبيعة النفس. فقد حدث حوار حاد بين ألكسندر أشيللينى ونيكو لَتو فرنيا. أما بيترو بومبانتزى فقد كان أستاذاً بجامعة بادوفا التى كانت تتميز بتيار أرسطى رشدى يقوم على تأويل ابن رشد لأرسطو فى العقليات والطبيعيات. ألّف كتاباً عنوانه «خلود النفس»، يذهب فيه إلى أن الخلود ليس لازماً من مبادئ أرسطو، وأن النفس الإنسانية فانية كالجسم. ثم ألّف كتاباً آخر عنوانه «فى القدر والحرية وانتخاب الله للمخلوقات»، يذهب فيه إلى أن الحرية والعلية الإلهية متناقضتان. وبعد موته نُشر له كتاب عنوانه «فى علل الظواهر الطبيعية العجيبة أو كتاب التعازيم» يقرر فيه أن المعجزات ظواهر طبيعية. وتابعه فى ذلك تلميذه سيزار كريمونينى. له كتاب عنوانه « فى السماء» يقرر فيه قِدم العالم واتحاد عضوى بين النفس والجسم يقضى على الروحانية فيفضى إلى إنكار الخلود، وإنكار العناية الإلهية. أما الفيلسوف بارثولوميوس ككرمان فقد أشار إلى ضرورة الإفادة من ابن رشد فى تأسيس المنطق. ولما لم يكن كتاب ابن رشد المعنون «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» شائعاً فى زمانه، فقد حثّ الأوروبيين على ترجمة ما تبقى من مؤلفات ابن رشد غير المترجمة.
ولم يتوقف التأثير الإيجابى لابن رشد، إذ امتد إلى جليليو. فأنت عندما تقرأ رسائل جليليو إلى الكونتيسة الهولندية كريستينا فكأنك تقرأ كتاب «فصل المقال».
يقول جليليو: «فى رأيى أن أضمن وأسرع طريق إلى البرهنة على أن موقف كوبرنيكس لا يتعارض مع الإنجيل هو التدليل على أن هذا الموقف صادق، وأن نقيضه ممتنع على التفكير. وحيث إنه لا تعارض بين حقيقتين، فثمة توافق بين موقف كوبرنيكس والإنجيل». وهذا قول منقول عن ابن رشد، إذ يقول: «إن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له». ثم يقول جليليو:« إن تحت المعنى الظاهر لكلمات الإنجيل يكمن معنى مباين». ويقول ابن رشد عن هذا المعنى المباين للمعنى الظاهر إنه المجاز. ويقول جليليو: «من عادة علماء اللاهوت إعلان أحكامهم طبقاً للآراء المشهورة فى زمانهم». ويقول ابن رشد: «إن الطرق المصرح بها فى الشريعة هى أربعة أصناف، منها أن تكون المقدمات مشهورة أو مظنونة». ثم يشير جليليو إلى مَنْ يحصرون أنفسهم فى المعنى الحرفى لكلمات الإنجيل. وهذه الإشارة تفيد مغزى تعريف ابن رشد للتأويل من حيث إنه يبحث عن الدلالة المجازية. ولهذا السبب فإنه يبدو أن الأجسام الطبيعية التى نراها أمام أعيننا بالتجربة الحسية أو التى نبرهن عليها بالبراهين الضرورية ينبغى ألا تكون موضع شك من قبل آيات الإنجيل التى قد تنطوى على معنى مباين موجود فى أعماقها.
ويمكن القول كذلك بأن ديكارت كان متأثراً بابن رشد فى مسألة وحدة العقل الإنسانى. يقول ديكارت فى مفتتح كتابه «مقال فى المنهج»: « إن العقل الانسانى أعدل الأشياء قسمة بين البشر». أليست هذه العبارة تعنى وحدة العقل الإنسانى؟، ثم إن ديكارت نشر كتاباً عنوانه «تأملات فى الفلسفة الأولى»، وفيه البرهان على خلود النفس. ولكنه فى الطبعة الثانية جاء العنوان على هذا النحو «تمايز النفس عن الجسم» بدلاً من خلود النفس.
ومازال التأثير الإيجابى متواصلاً.