ما التحديات التى واجهت الرشدية اللاتينية فى أوروبا فى القرن الثالث عشر؟
فى النصف الأول من القرن الثالث عشر، أصدر الإمبراطور فردريك الثانى هوهتشتاوفن أمراً بترجمة مؤلفات ابن رشد بناءً على توصية من مستشاريه بأنه إذا أراد الانتصار لطبقة التجار الصاعدة فى مواجهة الطبقة الإقطاعية المدعومة من السلطة الدينية فعليه إصدار ذلك الأمر لتأسيس تيار رشدى لاتينى، أى ناطق باللغة اللاتينية التى كانت سائدة فى ذلك الزمان، وقد كان، إذ نشأت هذه الرشدية فى كلية الفنون بباريس، حيث أعلن أساتذتها أن تأويل ابن رشد لفلسفة أرسطو أكمل مظهر للعقل. إلا أن زعيم الرشديين سيجير دى برابان (1235- 1282) كانت حياته سلسلة من الاضطرابات العنيفة، أهمها ذلك الاضطراب الذى قام حين أنكر أسقف باريس اتيين تامبييه القضايا الرشدية فى عام 1277 فكفّ عن التعليم. غير أن رئيس محكمة التفتيش أعلنه بالمثول أمامه وأصدر ضده حُرما لمجرد أنه ارتأى أن فلسفة أرسطو كما شرحها ابن رشد تمثل حكم العقل الطبيعى، وهو ما يعنى- بحسب رأى المحكمة- إقصاء الإيمان. وكان قد سبق تلك المحاكمة نشر القديس ألبرت الأكبر رسالة عنوانها «فى وحدة العقل رداً على ابن رشد» فى عام 1256 بناء على إشارة من البابا إسكندر الرابع لمهاجمة الرشدية لما وُسمت به من تفريق بين اللاهوت والفلسفة، بدعوى أنهما مجالان متباينان. وفى عام 1265 نشر القديس توما الأكوينى رسالة عنوانها «فى وحدة العقل عند الرشديين» يهاجم فيها الرشديين ويتهمهم بالكفر. وأظن أن قول الرشديين بنظرية «الحقيقة المزدوجة» هو أهم اتهام، إذ هى تعنى إمكان صدق نتيجتين متناقضتين فى آن واحد، أى إحداهما صادقة فى مجال العقل والفلسفة، والأخرى صادقة فى مجال الإيمان والدين.
ولا أدل على خطورة هذه النظرية من أنها كانت السبب الذى أفضى بريمون لول (1235- 1315) إلى إصدار مؤلفات كثيرة فى الرد على ابن رشد والرشديين. وفى عام 1288 درَس فى جامعة باريس كتابه الأشهر المعنون «الفن الأكبر»، يبين فيه أن بين العقل والدين توافقاً أساسياً خلافاً لما يدعيه الرشديون. ثم نشر ثلاث رسائل صغيرة فى عامى 1310 و1312 انتقد فيها التفريق بين الحقيقة اللاهوتية والحقيقة الفلسفية، وهو التفريق الذى تبنته الرشدية الإيطالية فى عصر النهضة. وفى عام 1311، قدم ثلاث عرائض إلى البابا كليمان الخامس يطالب فيها بإزالة مؤلفات ابن رشد وتحذير أى مسيحى من قراءتها. وقد قيل بعد ذلك إن سكرتير دى برابان طعنه بخنجر فمات.
واللافت للانتباه أنه على الرغم من التحريم الكنسى لابن رشد والرشدية اللاتينية إلا أن التأثير الإيجابى لم يتوقف حتى القرن الثامن عشر.
ففى عصر النهضة فى إيطاليا وضع الشاعر دانتى ابن رشد بين الوثنيين الفضلاء. وفى اللوحة المسماة (مدرسة أثينا) وضع الفنان رافائيل ابن رشد فى مكان بارز، وكذلك فعل الفنان جيوجيون فى لوحته المسماة ثلاثة فلاسفة. وكان لابن رشد تأثير على الفيلسوف جيوفانى بيكو ديلاميراندولا، إذ تعلّم اللغة العربية حتى يتمكن من قراءة النص العربى لمؤلفات ابن رشد. أما معاصره أجوستينو نيفو فقد درس الفلسفة فى جامعة بادوفا وألف عن ابن رشد كتاباً عنوانه «نظرية ابن رشد فى العقل الفعال»، وهو العقل المسؤول عن إدارة العالم الدنيوى. أما جاكوبو زابرللا فقد نشر مؤلفات عن منطق أرسطو بشروح ابن رشد.
ومازال التأثير الإيجابى متواصلاً.. فماذا حدث؟