أتمنى ألا تلهينا أخبار فيضانات النيل - عند منابعه - عن القضية الأكبر وهى مستقبل علاقاتنا المائية مع دول المنابع، وفى مقدمتها إثيوبيا.. وهى فيضانات أعلى من المتوسط، نتج عنها إغراق مئات القرى وتهدم آلاف المساكن فى السودان، والسبب ارتفاع معدل الأمطار- فى السودان وإثيوبيا - ونرجو ألا تنسينا هذه الأخبار القضية الأساسية.. فإذا كان فيضان هذا العام فوق المتوسط إلا أنه واحد من آلاف الفيضانات التى عرفها النيل وروافده.. فالفيضان يأتى ويذهب بكل إيجابياته.. وأيضاً سلبياته، رغم أن سلبياته أليمة للغاية، ولكن القضية أن أزمة المياه يمكن أن تدمر مصر، بكل ما فيها.. حتى الحضارة.
ولقد عشت مرات عديدة مع الفيضانات العالية كان أخطرها ما حدث عام 1946 ثم عام 1988، ولكنهم - وطبقاً لقراءات مناسيب النهر - يقولون إن فيضان هذا العام هو الأعلى منذ قرن كامل، وربما يغرى فيضان هذا العام إثيوبيا لكى تسرع فى تعبئة خزان سد النهضة، ليس فقط كما تطالب مصر بجعل هذه العملية تتم على 10 سنوات.. ولكن أيضاً، ربما أقل من فترة السنوات الست التى تراها إثيوبيا.. وإثيوبيا هنا لها حجة منطقية هى التخفيف من أضرار زيادة كميات المياه القادمة من الروافد التى تغذى النيل بكل فروعه.
ولكن أمطار هذا العام تغرى أيضاً إثيوبيا على المضى فى إنشاء العديد من السدود على معظم روافد النيل، وعددها المعروف حتى الآن هو 33 مشروعاً، أى سداً، ما بين سدود للرى، وأخرى لتوليد الكهرباء، وثالثة للرى والكهرباء معاً.. وها هى إثيوبيا تخطط الآن لإنشاء سد كويشا على نهر أومو بإقليم جنوب إثيوبيا قرب حدودها مع كينيا.. وهو من السدود الكبيرة لأن ارتفاعه يصل إلى 170 متراً ويتكلف 2200 مليون يورو.. وتنفذه وتموله أيضاً شركات إيطالية.
وإثيوبيا - غير النيل الأزرق، وهو الأكبر - ينبع منها نهر العطبرة الذى يصل إلى مجرى النيل الرئيسى شمال الخرطوم، ونهر السوباط الذى يتصل بالنيل الأبيض عند ملكال «الآن فى جنوب السودان»، ولقد طرت بطائرة صغيرة فوق كل منطقة جنوب غرب إثيوبيا - على ارتفاع منخفض - فوق مناطق جمبيلا وأومو وأكومو وبارو وجيلا كلها أنهار كبيرة تنبع من إثيوبيا وتتجه غرباً بجنوب نحو السودان بالإضافة إلى بيبور.
ولكن هناك أنهاراً أخرى تنبع من شمال إثيوبيا منها نهر القاش، أو الجاش، ويتجه شمالاً بغرب.. ولكنه - فى سنوات الفيضان المنخفض- يختفى فى الصحراء قبل أن يصل إلى مدينة كسلا.. ولكنه أيام الفيضانات العالية - مثل هذا العام - يمكن أن تصل مياهه إلى نهر العطبرة لتزيد من منسوب المياه فى النيل.. وجنوب نهر القاش هذا نجد نهر تكازى وهو أيضاً يختفى فى الصحراء دون أى فائدة.
هنا يجب أن يتركز مخططنا لمواجهة التوسع الإثيوبى فى بناء السدود أن تكون عندنا خطة استراتيجية طويلة المدى.. ولا يجب أن نتوقف عند المدى البعيد.. بل لابد أيضاً أن نقسم تحركنا.. ونبدأه بمواجهة الآثار المتوقعة لسد النهضة، وهو الأكبر الآن عند إثيوبيا.. لأن اتفاقنا على كيفية تقليل مضاره لنا سوف يضع قواعد ثابتة للتعامل مستقبلاً مع أى أنهار أو مشروعات تؤثر فينا.. كذلك يجب التنسيق هنا مع جنوب السودان ومع كينيا لأن بعض هذه السدود الإثيوبية تؤثر على ما يصل إليهما من مياه.
** أى أن القاعدة الآن هى وضع قواعد ثابتة للتعامل مع الأنهار متعددة الدول، أى الدول المتشاطئة على كل نهر.. وأن نحل مشاكلنا كما حدث بين دول أوروبا بالنسبة للأنهار العابرة للدول.. وأيضاً بين الولايات المتحدة وجارتها الجنوبية المكسيك، وأيضاً ما حدث مع دول جنوب شرق آسيا.
** وكل هذا يدفعنا إلى إنشاء لجنة قومية عليا تتولى التعامل مع ملف مياه النيل، وليس فقط لمشكلة سد النهضة.. ولا نترك الملف كاملاً ولو كان بيد وزارة الموارد المائية وحدها.. بسبب البعد القومى الأمنى وليس أيضاً بيد وزارة الخارجية وحدها.. أو المخابرات العامة.. لأن المياه هى - فى المقام الأول - قضية أمن قومى مصرى.. وإن كنا لا نعرف مصير هذا الملف وتطوراته بسبب التعتيم الواضح فى التعامل معه.