(1)
هذا أول مقال في سلسلة مقالات سأكتبها عن وزارة الثقافة، وليس مقصودا بها وزارة حلمى النمنم، فالأخير لا أعرفه إلا من كتاباته، وأظنه معتدلا وصورته العامة غير مبتذلة، على عكس بعض الوزراء الذين سبقوه في الوزارة بعد ثورة يناير، لكننى أسعى في هذه المقالات لبحث عن ما هو أكثر أهمية، عن دور الوزارة في خلق حالة من الوعى والحراك المجتمعى نحو الإبداع والتجديد، فالثقافة لا بد أن تكون خدمة متوفرة للجميع ما دامت الدولة ترعاها، وتخصص لها ميزانية، من جيب دافعى الضرائب، ودورها مكمل لوزارة التربية والتعليم، وهدفها تكوين فكر المواطن، بما يتلاءم مع العصر، ليكون متوافقا مع شروط العمل والإنتاج والإبداع، على ألا يتعارض ذلك مع هويته الوطنية وميراثه الحضارى الممتدد الذي يتأثر بالعادات والعرف.
(2)
هناك الكثير من دول العالم ليس لديها وزارة ثقافة مركزية، ولكن مؤسسات ثقافية تقدم خدمات ثقافية محددة، مصر وفرنسا اختارتا أن يكون لديهما وزارة ثقافة مركزية منذ اواخر الخمسينات.
في عهد الجمهورية الخامسة للجنرال ديجول، تم تأسيس وزارة ثقافة، في فبراير من عام 1959، ارتبط وجودها بالكاتب والمفكر الفرنسى أندريه مالرو، أراد الجنرال ضم مالرو لحكومته، فاقترح على رئيس وزرائه ميشيل دوبريه تأسيس هذه الوزراة لتليق بمكانة صديقه مالرو، وسميت في بدايتها بوزارة الدولة للشؤون الثقافية، ولقد جمعت هذه الوزارة الأنشطة الثقافية التي كانت بعضها تابع لوزارة التعليم، الصناعة والتجارة والإدارة العامة للفنون والآداب والأنشطة الثقافية التابعة لوزارة الشباب، وبالرغم ان مصر سبقت فرنسا بشهور في تأسيس وزارة منفصلة للثقافة في اكتوبر 1958، سميت وزارة الثقافة والإرشاد الوطنى، إلا أن أول وأهم وزير ثقافة، وهو الدكتور ثروت عكاشة تاثر بالنشاط الثقافى الفرنسى، وأسس هيكل ومؤسسات وزارته على غرار وزارة مالرو.
(3)
كان الجنرال ديجول رغم خلفيته العسكرية مؤمنا بقيمة فرنسا الثقافية، وأنها الباقية حتى لو وهنت عسكريا أو اقتصاديا، ولذلك اختار مالرو وأعطى له صلاحيات واسعة، فكانت أولويات مالرو: الحفاظ على التراث وكنوز فرنسا التاريخية، في عهده صدرت عدة قوانين تجرم هدم المبانى الأثرية وترممها، نشر الثقافة لتكون متاحة للجميع، اهتم بإنشاء قصور الثقافة (منازل الثقافة) في جميع ربوع فرنسا، ضمت الوزارة أكاديمية الفنون والمعهد الفرنسى في روما، وكذلك أكاديميات الفنون المختلفة إليها، دعمت الإبداع المعاصر، دعمت السينما الفرنسية (أول فيلم، السينما المستقلة) وكذلك أرشيف السينما الفرنسي (سينماتيك فرنسية).
وضع مالرو خططا طويلة المدى للثقافة، وأسس إدارات إقليمية ثقافية لتحقيق لا مركزية الأنشطة، ووضع هدفا لوزارته جعل باريس مركز الفن العالمى.
مما سبق ييتبن أن وزارة الثقافة في عهد عكاشة نقلت التجربة الفرنسية بحذافيرها تقرييا وبالفعل استطاعت الثقافة المصرية أن تكون من أدوات القوة الناعمة. (4)
وزارة الثقافة المصرية اقترن اسمها بالإرشاد عند تأسيسها، سياساتها الثقافية كانت انعكاس للسياسة العامة للدولة في العهد الناصرى، وبالرغم من أن الوزارة أسست على النسق الفرنسى، فقد نجحت في عملية التمصير، وحولت الثقافة من خدمة نخبوية إلى خدمة شعبية تصل لجميع المواطنين بنفس المستوى تقريبا عبر قصور الثقافة والمكتبات العامة ومطبوعات زهيدة الثمن لروائع الأدب العالمى وأمهات الكتب، وفتح أكاديميات الفنون أمام الجميع وتوسع في النشاط الموسيقى والإنتاج السينمائى.
(5)
كانت أهداف السياسات الثقافية واضحة في البداية، وكانت متوافقة مع السياسة العامة للدولة التي كانت محددة، وكانت خطط الوزارة وبرامجها تتشكل طبقا لهذه الأهداف ويتم متابعة التنفيذ وقياس النجاح وفق معايير محددة سلفا. مع الوقت تضخمت الوزارة حتى وصل عدد العاملين فيها الآن إلى ما يقرب من 40 ألف، هذا العدد يلتهم 85% من ميزانية الوزراة التي تحولت لجراج لأصحاب الوساطة والمحسوبية العاطلين عن العمل.
مع تغير سياسات الدولة من ناصر للسادات لمبارك، لم تعد سياسات الوزارة وأهدافها واضحة في ذهن الوزير، عادة ليس لديه رؤية، وجيش العاملين معه، ونجح فاروق حسنى أطول وزير ثقافة عمرا في الوزارة في تحقيق سياسة الدولة في عهد مبارك، وهى إبقاء الحال على ما هو عليه، وهو ما سمح للتيارات الوهابية والسلفية في التغلغل إلى فكر الشباب المصرى، ووجدت تجاوبا معها لعدم وجود بديل ثقافى حقيقى، وفقدت الثقافة المصرية بوصلتها وريادتها.
في المقال القادم سأقدم شهادات عدد من العاملين في الحقل الثقافى عن أسباب تدهور وزارة الثقافة وفقدانها جوهر وجودها والهدف الذي أنشئت من أجله.
في انتظار مزيد من مشاركتكم في هذه السلسلة.