x

أحمد عبد الله نحن جزء من العالم أحمد عبد الله الخميس 14-07-2016 21:22


أجبرت أحداث السنوات الخمس الأخيرة العالم العربي على محاولة فهم الكوكب الذي يعيش فيه بشكل جاد، والفضل يعود للأحداث الدرامية التي يقع في محورها، بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تخترق كل الحواجز والحدود.

المتابع لتلك الوسائل والإعلام العربي عمومًا، من صحف ومواقع إلكترونية وقنوات فضائية، يرى كمًّا هائلًا من المناقشات وجرأة غير مسبوقة في طرح العديد من القضايا في السياسة والدين والمجتمع، بالإضافة إلى ربط أحداث العالم وسياسات الدول الأخرى بسياقنا العربي وغيرها من الأمور، ورغم اختلاف أجنداتها جميعًا فإنها تُنبئ بصحوة فكرية وفلسفية ذكّرتني بعصر «التنوير الأوروبي» قبل نحو ثلاثة قرون!

التنوير الأوروبي جاء بقيادة فلاسفة فرنسا وبريطانيا وسبق وواكب الثورة الصناعية الأولى والثانية، وأدى إلى ثورات ضد الأنظمة الملكية والإقطاعية والطبقية، رغم أن كثيرًا من الفلاسفة أنفسهم كانوا مُقرَّبين من البلاط الملكي وطبقة النبلاء بشكل أو آخر ومنهم ديكارت وفولتير وروسو وسبنوزا ولوك وكانت وهيوم وهوبز، وحتى العالِم إسحاق نيوتن كان من بين الوسطيين التنويريين الذين رأوا أهمية التوازن بين الديمقراطية والليبرالية من ناحية، والدين ونظام الحكم التقليدي من ناحية أخرى... المهم أن أفكار الفلاسفة هؤلاء كان جوهرها وضع «العقل» أو «التفكير العلمي» في أولويات الدولة لو أرادت أن تتقدم إلى الأمام! وهكذا جاء التنوير مصاحبًا للعمل والتقدم على جميع الجبهات، بما فيها احترام الحريات الشخصية وصولًا إلى أوروبا بشكلها الحالي.

أما التنوير «العربي» فلا يزال حتى الآن يحبو نحو المعرفة وتحري المعلومات ويقتصر على الجدل والنزالات الكلامية، الصحيح منها والمدسوس المغلوط، أما اللافت للنظر فهو أن فلاسفة التنوير العربي هم إعلاميون بالأساس وضيوفهم من المتخصصين والخبراء الذين يُفضِّل معظمهم مخاطبة الناس بما يريدون أن يسمعوا وليس بما هو صحيح أحيانًا، لكن من المؤشرات الإيجابية أن الإعلام العربي بات يفهم أهمية الانفتاح على أخبار العالم، فوظّف مترجمين متخصصين وأصبح لديه فرق تتابع مواقع وقنوات غربية ويشترك في وكالات أنباء عالمية ليحصل على الأخبار أولًا بأول بعد أن كان يترجم دون فهم المعاني ويحوّر كلمات وتصريحات ومقالات وأخبارًا أجنبية عمدًا أو جهلًا لأغراض محلية، وأحيانًا يبث الشائعات ويسلّط المرتزقة والمتعلمين «الجهلة» والمنتفعين لتشويش الأخبار الصحيحة وتضليل العامة عندما لا تعجبه أخبار العالم!

الحركة التنويرية مستمرة بعدما كان العالم العربي غارقًا في ظنونه بأنه مستقل عن الكوكب منغلقًا على أخباره وأخبار قادته ومسؤوليه، وأنه في مخبئه هذا لا يراه أحد، غير مدرك بأن الأقمار الاصطناعية وتكنولوجيا المراقبة الدقيقة التي اخترعها «الغرب» وهو في غيبوبته هذه، تعرف عنه كل صغيرة وكبيرة!...

تصحيح السلوك الرجعي أو المتخلف شيء جيد حتى ولو جاء متأخرًا نحو ثلاثمائة عام، لكن هل سيسهم في إحداث أي تقدم في العالم العربي، وهل ستواكبه «ثورة صناعية»، كما حدث في «التنوير» الأوروبي، أم أننا نختلف عن الآخرين؟

العالم من اليابان إلى موريتانيا يمر بالمشاكل والأزمات نفسها ببساطة لأننا كلنا بشر نسكن هذا الكوكب، وطالما وُجد بشر وُجد الخير والشر وما بينهما... وليس هناك من بلد أو مجتمع «مثالي» ولن يكون! كما أن المبتدئ في عالم السياسة يعلم جيدًا أن «المصالح» كلمة أساسية في معجم السياسة الدولية، كما يعلم أيضًا أن الفساد موجود في كل مكان في العالم بنسب متفاوتة ولكن في الدول المتقدمة تنتصر مؤسسات الدولة لأنها أقوى من الأشخاص، ليس هذا وحسب، بل لأنها تتبع نهج «العقل والتفكير» وبكلام الفلاسفة «المنطق»، والقانون نتاج المنطق، فالدولة هي الأول قبل «الأنا» إن أردت دولة متقدمة للمواطنين وليس دولتي «أنا»!
العقل يقول إن كنا نحب بلدنا فلنبنِ مؤسسات قوية «مستقلة»، وإن كنا لا ننام من فرط غرامنا بوطننا فلننتصر لدولة القانون ونحارب الفساد ونعمل، وإن كنا نرى أن نسبة كبيرة من شعبنا جهلاء فعلينا أن نرقى بهم ولا نتركهم هكذا! فأوروبا تقدمت علميًّا وثقافيًّا وتكنولوجيًّا بسبب تفعيل «العقل» ونضجت سياسيًّا بسبب تغليب سياسة «التفكير العلمي» لمصلحة الوطن في مرحلة التنوير وما تلاها من توفير لبيئة صحية وتربوية ونفسية ترقى بمواطنيها والاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها، وتعلمت منها أمريكا...!

الدول المتقدمة نجحت في ترسيخ مفهوم العدالة من خلال مؤسسات قوية مستقلة، وهي ليست أفضل منا وهم بشر مثلنا، فبناء مؤسسات تحاسب المخطئ، وتواجه ولا تخفي وتشوّش على المشاكل والأزمات، وتعاقب وتطبق القانون إن ثبت انتهاكه، وتتعامل بشفافية «الواثق من نفسه» مع شعوبها ومع الآخرين، هي الضمان لتطور مجتمعاتها على «المدى البعيد»... إن المؤسسات في تلك الدول أقوى من الأشخاص والقانون أقوى من الأشخاص، وكما قال لي أحد أعضاء البرلمان البريطاني يومًا عندما انتقدت طريقة تعامل الحكومة مع المحتالين من طالبي الإعانات الاجتماعية: هناك قاعدة ذهبية هنا... افعل ما شئت لكن إن ارتكبت خطأ وصرت تحت طائلة القانون فلن يرحمك أحد... أي لن تستطيع أن تُجري اتصالًا بفلان بيه ولا سعادة الباشا... القانون هو القانون... والاستثناءات فضيحة تعقبها استقالات! أليس هذا منطقيًّا!

أما نحن فعندما نواجه أي شيء «غير منطقي» نبتسم ونقول «مرحبًا فأنت في العالم العربي!»، أتساءل أحيانًا: لماذا تُكتب الوظيفة على بطاقة الهوية ورخصة القيادة وجواز السفر؟ كيف يمكن أن تطبق القانون إذا كان القائمون على تنفيذه مستثنين غالبًا من تطبيقه بمجرد معرفة وظائفهم؟!. إذا أردت أن تكون دولة قانون ودولة مؤسسات يجب أن يكون الجميع أمام القانون سواسية، ومنطقيًّا أن يكون الاسم وتاريخ الميلاد وعنوان الإقامة فقط هي أهم المعلومات التي يجب أن يعرفها المشرفون على تنفيذ القانون والباقي للسيرة الذاتية وبطاقات العمل.

دولة القانون والمؤسسات هي الضمان والأمان لمستقبل الدول التي ترغب في التقدم إلى الأمام! ليس هذا انبهارًا بأحد ولا مديحًا لأحد ولا انتقادًا لأحد أيضًا، لكنه ما يُعرف بـ«كومن سينس»، وهي باختصار «الفطرة السليمة» أو الوعي العام أو المنطق الإنساني!! هناك ظواهر كثيرة غير منطقية لا يمكن حصرها هنا، فأين العقل والمنطق في بلادنا العظيمة التي تزخر بالإمكانات المادية والبشرية والمبدعين في كل المجالات...! نحن لا نعيش في كوكب آخر!
وكما قال الأخ أرسطو:
«إن الإنسان في أحسن صوره هو أكثر المخلوقات نُبلًا، وبدون قوانين وعدالة يصبح أسوأها»!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية