تجاوزت أزمة نقابة الصحفيين المتصاعدة والمختصمة فيها وزارة الداخلية حدود المعقول، في ظروف ملتهبة لا تحتمل المكايدة أو المراهنة على الحصان الرابح، فقد تحولت الأزمة بفعل مجهول إلى حرب يخوضها عدة أطراف، كتائب اللجان الإلكترونية من جهة والمواطنين الذين يراقبون المشهد عن بعد وتكشفت رؤيتهم الصادمة لجموع الصحفيين من جهة ثانية، ومجلس النقابة المفترض أنه يمثل الصحفيين مع وزارة الداخلية من جهة ثالثة، القاسم المشترك في الأزمة الطاحنة التي أضرت بجموع الصحفيين، هي تلك الفجوة الكبيرة التي كشفت عنها الأزمة بين المواطن والصحفيين، لم تشفع ثقافة الاختلاف مع الآخر في الذود عن الصحفيين فكيلت الاتهامات والشتائم وأخذ فيها الحق بالباطل ونالت من الجميع.
حالة الاحتقان الشعبى ضد الصحفيين كانت مخيفة لدرجة جعلتنى أتأمل المشهد عن بعد، فالأزمة للأسف الشديد دخلت نفق مظلم، بركان خامد تشظت نيرانه تحت أقدامنا ليحولنا إلى رماد دون سابق إنذار، هذا البركان الذي التقطت شظاياه مواقع التواصل الاجتماعى كشف عن كم الكره الذي يكنه الناس للصحفيين، ابتعدوا عن القضية المحورية التي نسجت خيوط الأزمة وتناسوا أسبابها ودلفوا بكيل الاتهامات والتعريض بسمعة المهنة والقائمين عليها، وأصبحنا متهمين لم يستثن منا أحدا.
وظفت الأزمة بكل تناقضاتها لتدخل في معركة غير محسوبة لن يكون فيها خاسر سوانا، في وقت حرج لا يحتمل المزايدة على وطن يئن بفعل الضربات الموجهة إليه، لكن المثير في الأمر ما رشح عن الأزمة من تداعيات، اختلط فيها الحابل بالنابل وتحولت مهنة المتاعب وصاحبة الجلالة إلى سوق للمزايدة على شرفها ونزاهتها وطهارة يدها وهو الأصل في الموضوع، وإذا كان هناك من لوث شرف المهنة واستباح كرامتها فهذا لا يعنى أن الجميع مدان، صحيح أن الاستياء من الأداء الإعلامى قد تصاعدت وتيرته في الآونة الأخيرة وشابه التشكيك والطعن في أمانته ونزاهته، لكن ذلك لا ينطبق على الجميع وإن كان هناك قلة تفتقر المهنية وتفتقد الضمير قد اتخمتها سطوة النفوذ والسلطة والمال وتغافلت في هوجة النجومية الزائفة شرف الكلمة وطهارة اليد ونزاهة النفس، فهذا لا يعنى أنه لا يوجد مهنيين شرفاء آثروا الانزواء في الظل لأن المناخ العام لا يمثلهم ولا يعبر عن أخلاقهم ومبادئهم المهنية، تواروا بعيدا عن الأنظار لأنهم أيقنوا أن المرحلة ليست لهم ولن تكون.
إذا كان المواطن قد عانى من التضليل الإعلامى فالمسؤولية تقع عليه هو أيضا، ليس كل ما يقال يصدق الحيطة والحذر يجب أن تكون حاضرة في ذهن المتلقى لتكون لديه القدرة على فرز الغث من الثمين، وليس الانسياق المجانى دون التحرى والتدقيق فيما يتم تداوله وتسليط الضوء عليه كأنه «تابو» لا يجوز الاقتراب منه، فكما عانى المواطن من هؤلاء الذين يبثون السموم في كل نفسٍ يخرج منهم، فكثير من الصحفيين المحترمين أيضا عانوا من تلك الظاهرة وشربوا من نفس الكأس، ونال منهم الإحباط في مناخ أصبح شديد الوطأة والفساد.
أثبتت التجربة أن ثقافة الاختلاف لا مكان لها في المجتمع، الاختلاف في الوقت الراهن جريمة تقابل بالإهانة والسب والقذف والتخوين، الكل محتقن والكل ضاق ذرعا مما يحدث من أزمات مفتعلة وقعنا جميعا ضحاياها دون استثناء، تحولنا إلى كتل نيران ملتهبة نتقاذفها ضد بعضنا وأصبحنا نختصم إنسانيتنا التي أهدرتها الخلافات، ولم يعد هناك من سبيل لاختراق ثقافة «احترام الرأى والرأى الآخر» أو تفعيلها، فالتشبث بالرأى قفز على كل محاور حياتنا وبين ليلة وضحاها أصبحنا جميعا ثاقبو البصيرة لا يشوب آرائنا شبهة الخطأ وبالتالى ليس هناك مكان للاعتذار، وكأن الاعتذار أصبح ملاذا للضعفاء وليس من سمات الأقوياء.
لقد كشفت أزمة نقابة الصحفيين عن خلل قاتل في بنية المجتمع وتفسخ شديد بين أركانه ندفع جميعا ثمنه دون استثناء، فالانتقاص من قيمة الصحفى وإهانته جريمة، كذلك ليس من البطولة التجاوز في حق الدولة والتجرؤ عليها والنيل من مؤسساتها وسمعتها لتحقيق مكاسب ضيقة، لأن هذا يعنى أننا نرتع في ربوع الفوضى والتسيب وانتهاك القانون، وعلينا أن نختار أن نكون في دولة القانون ويحترمه الجميع والكل أمامه سواء، أو فوضويون تحكمنا شريعة الغاب والصوت العالى، وعلينا حينها أن نتحمل النتائج؟!.