(1)
لاتعجبني طريقة إدارة أي أزمة بمنطق التعصب الجاهلي، وأذكر أن أول مقال تحليلي قرأته عن التعصب كان للدكتور فؤاد زكريا، كتبه على ما أتذكر في مجلة «الفكر المعاصر» عام 1969 حين كنت طفلا، ومن حسن الحظ أنه أعاد نشره مع مقالات أخرى في كتابه الممتع «آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة»، ولقد استهواني في ذلك المقال أن الفيلسوف اختار أن يحلل الظاهرة المعقدة من مدرجات كرة القدم، وذلك قبل عقود من اكتساح ظاهرة «الألتراس» لكل مجالات الحياة في مجتمعنا، ربما منذ ذلك الحين (نهاية السبعينات) تعلمت ألا أنظر لأي قضية باعتباري طرفاً فيها، وتفهمت لماذا يتنحى القاضي عن نظر القضايا التي تخص معارفه وأقاربه وخصومه أيضا.
(2)
بعد هذا التمهيد الهادئ، أنتقل إلى أزمة وزارة الداخلية ونقابة الصحفيين، باحثاُ معكم عن نظرة موضوعية ومتوازنة بعيدا عن الحماس الزائد، ومعظمه إيجابي، وقليله يستهدف أعراضاً خبيثة أخرى، والموضوعية تتوفر لدي لأنني لست ضابطاً في الوزارة، كما أنني لست عضواً في النقابة، أنا مجرد مواطن مصري لا يهلل للحرائق، كما أنه لايقبل أيضا بالطغيان، وانتهاك «القَوي» للقوانين والقواعد التي تميز الدول عن العصابات والقبائل البدائية.
(3)
أعلم أن الداخلية لديها مسوغ قانوني للقبض على مطلوبين، وصلتها معلومات أنهما داخل مبنى النقابة، ويسعدني أن تفيق الداخلية من غفلتها فتشرع في القبض على المطلوبين (أمثال الدكش) وتطارد آلاف الهاربين من تنفيذ الأحكام، وبعضهم يواصل جرائمه ضد المجتمع، ويتحرك بحرية أكثر مني ومنك، تحت سمع وبصر الداخلية، لكن: هل يحق للداخلية أن تتحرك لتنفيذ القانون بطريقة تنتهك القانون؟
(4)
السؤال عن الأسلوب هنا، ليس ذريعة لمساعدة مطلوب على تجاهل الاستدعاء للتحقيق، وليس مباراة عناد واستعراض قوة بين الداخلية والنقابة، لكنه مظهر من مظاهر دولة القانون، بل هو روح القانون نفسه، ورأيي أن هذه هي المشكلة الأخطر التي تهدد كيان الدولة، ليس من جانب الداخلية فقط، ولكن من جانب كل الكيانات والمؤسسات الأخرى في المجتمع، هناك تمسك بالبند الذي يعلي مصلحتي، وهناك تشدد في إعلائه واستخدامه بقوة لصالحي، لكن هناك أيضا ركن ناقص في المفهوم، يجعلنا نستخدم الحق ونحن نريد به الباطل، نوظف القانون لقتل روحه، ندخل الصراع بمنطق «الأنا»، فتصبح كرامة الصحفي في مواجهة كرامة الضابط، وتنقلب كل خلية في جسد المجتمع إلى عدو يستلب أو يحارب الخلية الأخرى، وهذا هو ابسط تعريف للسرطان الاجتماعي الذي يعاني منه جسد المجتمع وعقله ايضاً.
(5)
هل يعني هذا أن الكل مخطئ، وأن الشعار الأجدر بالمرحلة هو «سيبها تولع»؟. أم أن أحد الطرفين فقط هو المخطئ، وما علينا إلا نرد الباغي وننصر المظلوم؟. أم أن كل طرف لديه جانب من الصواب يتمسك به دون سواه، وجانب من الخطأ ينكره أو يقلل من أهميته؟، وفي كل الأحوال كيف يمكن التفكير في حل أزماتنا بمنطق الاحتكام إلى القواعد والانتصار لدولة الدستور والقانون؟، وهذه هي النقطة التي تهمني حتى لا نظل نتعامل مع الأزمات كوقائع فردية تتكرر كل مرة بنفس الطريقة في تواريخ ومواقع مختلفة، فنعاني من عشرات ومئات الأزمات مع أنها في الحقيقة أزمة واحدة تتكرر كل مرة بصور واسماء مختلفة.
(6)
في التعامل مع الأزمات، لا أفضل طريقة: «لو لم يحدث كذا...»، ولا طريقة: «هو اللي بدأ..»، أو «أصله عمل كذا..»، ولا أرى خيراً في غريزة رد الصاع صاعين بميكانيكة صماء، إلا إذا كنا قد وصلنا بالفعل إلى مرحلة التمسك الأعمى بالبغي من طرف، في مقابل المرونة الكاملة من طرف آخر، حينها يجب على المجتمع كله أن يرد الصاع بثلاثة ويقاتل الفئة التي تبغي، أما قبل ذلك فهناك توصيف للأزمة يتحدث عن خطأ من الممكن إصلاحه، وليس عن «حرب»، و«ثأر»، و«انتقام»، وبالتالي فإن خطاب الخنساء لا يناسب أزمة داخلية في مجتمع عاش متجانسا آلاف السنين، كما لا يناسبها حلول استهبالية من نوع «بوس راس أخوك»، لأن المصيبة تكمن عندنا في «خديعة الاعتذار عن الواقعة» مع «الاستمرار في المنهج»، فهذه المشكلة لا تخص الداخلية والنقابة فقط، لكنها تخض فهم حالة الاحتقان الخطر التي يعاني منها المجتمع كله، فالدهانات المرطبة والمسكنة لا تعالج السرطان.. قد تزيل الألم مؤقتا، لكن الخطر يظل مشتعلا تحت ستارة العقل الخامل، حتى تنفجر الأزمة في لحظة احتدام لا يستطيع فيها أن يواجها أحد.
(7)
لهذا فإن المدخل الوظيفي لحل الأزمة المتمثل في استقالة وزير الداخلية ليس حلاً شافيا، بل مجرد «حل هروبي» يرضي كرامة الصحفيين الغاضبين، لكنه في المقابل سيؤجج النار في كرامة وكبرياء ضباط سيغضبون، فنستمر في رمي بعضنا البعض بكرة اللهب، بينما قرار الإقالة تملكه مؤسسات، تتحرك بتوازنات وحسابات مصلحة ضيقة، وأقصى ما يفكرون فيه هو تسكين الأزمات وليس حلها، وتنفيس أسباب الاحتجاجات وليس تفكيها، لكن الحل النهائي يبقى بعيدا عن فكر السلطة، رغم أنه لا يحتاج إلى عبقرية أو اختراع جديد، بل في تفعيل القوانين والمواثيق التي يتبارى الكل في ترديدها وقت الأزمات كسلاح يملكه في مواجهة أسلحة الآخر، فلا يكفي أن نوجه النصائح للشرطة بأن تلتزم بدورها وجوهر رسالتها، فهي تعرف ذلك جيدا، لكنها لم تتدرب عليه ولم تمارسه بالفكر الجديد الذي يناسب شعوب العولمة، وهذا يعيدنا إلى الحديث المتكرر عن إعادة هيكلة الشرطة، ليس كانتقام منها، أو إضعاف لها بعد ثورة يناير، ولكن كتطوير لأدائها في كل المجالات لتناسب القيم التي نادت بها الثورة، والتي صارت من البديهيات المطلوبة في العالم المتحضر كله، وليس مجرد طلبات متزيدة للنوشتاء والحكوكيين (كما ينقطقها الساخرون)
(8)
أكرر أن أزمة النقابة في رأيي لا تقتصر على هذه الواقعة بعينها، ولن تبقى المعركة في مواجهة الشرطة وحدها، لأن اعتصام الصحفيين لن يبقى كثيراً في الحدود الضيقة.. الشعارات سترتفع وتمتد إلى الشأن العام كله، والمظاهرات لن تقتصر على أعضاء النقابة، ستتحول سريعاً إلى نهر تصب فيه روافد الغضب الشعبي والنقابي بشكل عام، ليس اعتراضا على حبس اثنين من الصحفيين (فهذا هو المظهر الخارجي فقط للأزمة) ولكن على أسلوب «عصابات القوة» التي تتجاسر على كل شئ في الوطن، وهذا لا يتوقف عند الداخلية فقط، فالمجتمع كله يعاني من جماعات مصالح متوحشة في كل المجالات تستخدم نفوذها ضاربة عرض الحائط بالقانون والدستور، وأيضا بتصورات الأفراد والفئات الاجتماعية عن مكانتهم كمواطنين لهم حقوق في بلد، أرى ويرى غيري أنها تنزلق من «حالة الدولة» إلى حالة «المافيا» بكل ما يرافقه ذلك من خطر ظهور عصابات جديدة، تبرر ظهورها بأهمية الصراع مع العصابة الأكبر والأشرس، ويتحول المجتمع إلى ساحة استقطاب بغيضة تغذي مفاهيم الألتراس، وتكتلات العصابات.
(9)
الخلاصة في هذا المقال، تتمثل في مبادرة عاجلة تعترف فيها أكبر سلطة، بخطورة الأزمة الشاملة التي يعاني منها المجتمع كله، وتدعو إلى وضع وثيقة مبادئ مكملة للدستور، أو موازية له (لا يهم الشكل، فهذا يخضع لمواءمات قانونية) يتم صياغتها بعد حوار مجتمعي موسع، تشارك فيه كل الجامعات والمؤسسات البحثية ووسائل الإعلام، والوزارات المعنية بالعمل وسط الناس (مثل الثقافة والشباب، وغيرهما)، من أجل وضع «عقد اجتماعي ملزم» يحد من تلاعبنا الدائم بالقانون والدستور، ويجب تأسيس «مرجعية» و«آلية» لهذه الوثيقة، لهما طابع شعبي ملزم للسلطات الرسمية، حتى لا تتحول (كمواثيق الشرف السابقة) إلى حبر على ورق كما يحدث دائما.
(10)
أتمنى من الله ومن الشعب ومن الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ومن السلطات القائمة، أن تبادر بوضع اساس بناء مصر العصرية، لنخرج من أزمة المجتمع الكبرى، وليس من أزمة الداخلية والنقابة فقط.
فهل آن الأوان لتحويل الأمل إلى عمل؟
الله يعين الساعين، فلا تتخاذلوا
جمال الجمل
[email protected]