يبدون كمجموعة من «المستذئبين»، أو مصاصى الدماء، فهم لا يتحدثون سوى عن الدم، ويتقمصون دور «ابن آوى»، الذى يرغب فى قتل الخارج عن القطيع، لا يألفون حديث الاختلاف، ولا يرغبون فى الاستماع، ويلتزمون التعميم، ويُغيِّبون الحس النقدى، ويستسلمون للخرافة، ويبالغون فى الدعاية، ويقررون بجهل أن يكونوا «ببغاوات تلبستهم أجساد البشر».
أن تتحول الدولة أو الأنظمة إلى أصنام فعلته الشعوب من قبل، ودفعت الثمن غالياً، ففى اليابان فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر جاءت ثورة «ميجى» الإصلاحية «السلام المتنور»، وأعادت الإمبراطور «متسوهيتو» إلى الحكم، وأعقب ذلك إلغاء الإقطاع، وبدأ بناء أيديولوجيا جديدة تحولت فى عام 1915 إلى روح وطنية وقومية غلابة، لكنها تعتمد على النزعة العسكرية المتطرفة وتبجيل الإمبراطور، وتحولت إلى جنون التعصب، بما وضع الدولة فى المكان الأول وأنزل الفرد منزلة ثانية، وانتهى الأمر بالفاجعة، فقد سقطت اليابان فى الحرب العالمية الثانية، وانتهت أسطورة التعصب وعاد اليابانيون ليفكروا بطريقة جديدة بعد أن تعلموا الدرس، البداية إنسان والنهاية «إنسان» بلا تعصب أو تحزب أو قطيع، ولذلك أصبحت على ما هى عليه.
«اللى هينزل مالوش دية، اللى هينزل هنخلص عليه، ومن سيتظاهر لن يجد سوى الرصاص، وسنضربهم بالأحذية» لم تكن تلك سوى عينة من لغةٍ جرى استخدامها طوال شهور، لتعكس مصر الكراهية من فضائيى الموالاة، ومعها مشاعر أخرى غير مسيسة، تعكس كراهية من نوع آخر، جسدتها محاولة سيدة دهس متظاهرين يهتفون ضد السلطة، بين هذا وذاك شعور جمعى بالانتماء المشوب بالخوف على المصير، ويحمل فى الوقت ذاته سبباً كافياً لتعقيد السبل والتعجيل بالمصير الذى نخشاه، مادام لا يقرب تعقلاً أو يجنح إلى نضج، فالنغمة بلغت المدى وصارت مخيفة، فمن يرددونها هم أنفسهم رجالات الماضى الذين أوردونا مهالك التراجع والانحطاط، بينما كانوا يحصدون المكاسب ويكنزون الأموال.
وسط هؤلاء تأتى مجموعة اختارت طريقاً شاقاً للابتعاد عن الضجيج، بخطاب مختلف ينطلق من تطلع المواطنين إلى عقول فى أوقات الشدة لتمثل المعاناة والدفاع عن القيم الإنسانية، حتى ولو جرت ملاحقتهم أو اضطهادهم إلى حد التخوين، كما فعلوا فى بريطانيا أو أمريكا مع أصوات خالفت الرغبة فى شن حرب فى فوكلاند وفيتنام على الترتيب، بدعوى أنهما خارجان عن الملة الوطنية والقومية «نستمع إلى نفس الخطاب فى إعلامنا للأسف».
مصاصو الدماء يخرجون كل ليلة، لا يمثل الدم أى حرمة لديهم، ينهشون فى الأعراض، ويفتشون فى النوايا فى كل لحظة، ويهللون بسذاجة لأى شىء وكل شىء، حتى ولو كان بسيطاً لا يمثل إنجازاً، ويصوغون الأمور وكأننا نعيش على هذه الأرض للمرة الأولى، ليصنعوا دهشة مصطنعة وشعوراً كاذباً بالارتياح بأن هناك أشياء تحدث، ويستهدفون من على الجهة الأخرى هؤلاء الذين يمثلون- كما يذكر أوسكار وايلد- معانى الإنجاز فتنتظرهم الجماهير ليبتكروا نفوساً جديدة - حسب وصف إيميه سيزار- فالولاء والإخلاص للكفاح الذى تخوضه الجماعة من أجل البقاء لا ينبغى له أن يُنسى المثقف وصاحب العقل مسألة التحرر السياسى ودراسات نافذة للقيادة وتقديم البدائل، التى كثيراً ما يكون مصيرها التهميش أو التجاهل، كما يقول إدوارد سعيد، باعتبارها ليست ذات أهمية حالية مادامت المعركة الرئيسية قائمة «هذه لغة السلطة الحالية»، وينبغى ألا يقتصر ولاء المثقف أو صاحب العقل على الانضمام إلى المسيرة الجماعية، فليكن مثل طاغور أو خوزيه مارتى الكوبى، فلم يتوقفا عن انتقاداتهما من أجل الوطنية رغم مواصلة مواقفهما الوطنية.
السلطة تشبه داعميها، ووضع الإنسان فى المنزلة الأدنى سبيل للفوضى، فالجملة المهينة الموجعة «قتلوه كما لو كان مصرياً» تعبير عن تلك الحالة التى نعيشها وكرستها أصوات «ابن آوى» الفضائيات، لنصل إلى ما نحن فيه «مواطن مطحون مغلوب يستجدى العدل والمساواة»، ويتم سبه ولعنه ليل نهار، لأنه لا يُغنِّى مع الكورس: «صبَّح على مصر»..!