قد تنتقل إلى رحمة بُطُون التاريخ تيران وصنافير. كما قد تنتقل الجغرافيا. تماما كما قبرت أو دفنت جغرافيا، كل ما يمت لنا من جبال طوروس فى الشمال الشرقى على الحدود الملاصقة لتركيا حاليا، وحتى بلاد بونط جنوبا المعروفة بالصومال، الذى صار مفتتا ومنقسما ومحتلا برمته حاليا.
لطالما تحركت الجغرافيا وتنقلت وتوزعت. إنما بقى التاريخ ويبقى جذوة اعتقاد لا تنظفئ، فهو ثابت ثبات الاعتقاد، دائم كما الاعتقاد، أو هكذا هو، بينما الجغرافيا محل نظر، أو قل قابلة للتحرك أو التحريك والانتقال والتجزئة.
الاعتقاد يعوض الجغرافيا. نؤمن ونتعلم وندرس أن حدود الأمن القومى المصرى المباشرة، تمتد من جبال طوروس فى الشمال الشرقى حتى بلاد بونط جنوبا. أى من سواحل وهضاب وجبال غرب آسيا وشرق المتوسط، حتى سواحل وهضاب وجبال شمال شرق أفريقيا، وكل ما يحجز أو يطل على البحر الأحمر، وبكل ما يتصل بهما من علائق ودوائر مصلحة وتعايش واتصال.
للتاريخ والجغرافيا قصة فى حياة أى أمة. تنقص فيها الجغرافيا ويعوضها الاعتقاد. أمم كانت تحكم، فلم تعد تحكم، كما كانت تحكم. اليابان مثلا، كما الصين طريقة ومثالا، ولا تنسى أوروبا الواحدة، بعد تقسيم وتمزيق وتقطيع أوصال.
ونبقى مع اليابان. إذ نظل شرقا لا غربا، كما اليابان. والأقربون، ليسوا أولى بالمعروف فقط. وأولى أيضا بضرب المثل والاقتداء. وقد جاءوا سابقا يتعلمون منا. وأولى بِنَا التعلم منهم، والتأسى بهم الآن.
ضاعت من اليابان جغرافيا الامبراطورية، فعوضت القدرة والامتداد بالاعتقاد والعلم، ففرضت على أمريكا كما لم تفرض عليها أمريكا، غزوا تجاريا واقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا وأخلاقيا أشد وطأة، مما عملت أمريكا من أجل إضاعة وتدمير لإمبراطورية اليابان. وكما لم يسبق، ولم يحدث بعد. تدمير بالنووى، لم يشمل القدرات والجغرافيا. إنما الحياة والحيوات، والبشر وحتى الحجر.
تماما مثلما انفردت «طيبة» فعلمت البشرية، من زمان الفراعنة وحتى الآن أنه بالاعتقاد والعلم، لا يمكن فقط تحرير البلاد من بقعة صغيرة طاهرة نقية متعلمة، إنما يمكن أيضا اتساع البلاد شمالا وجنوبا على مدد ما هو أبعد من مدد الشوف. بل وإقامة امبراطورية مصرية تمتد من حد تركيا إلى حد الصومال.
لا شريك ولا حرمة لنا فى الاعتقاد، ولا لوم ولا تقريع، ناهيك عن استهزاء وتخوين أو حبس واعتقال. فلطالما توسعت الجغرافيا وتقلصت أو صغرت فى مساحة امتداد التاريخ الممتدة للحاضر، الذى ظل متسعا ويتسع فى اعتقاد يظل فى علاقة عكسية أو طردية، مضطردة مع الجغرافيا.
لطالما تحركت خرائط الجغرافيا. ولطالما بقى ويبقى الاعتقاد نافذا. وبأكثر مما تفهم أو ترسى خرائط الجغرافيا. وربما سياسة إدارة الخرائط الجغرافية بالنقص، فالاعتقاد ثم الاعتقاد، فالاعتقاد وحده بلا شريك إلا العلم. صانع الجغرافيا، ولا يرسم الجغرافيا سوى الاعتقاد العالم أو المتعلم.
هذه بالأخص قصة مصر، التى كانت تحكم، فلم تعد تحكم بالجغرافيا، كما كانت تحكم، فظلت وتظل تحكم على ما كانت تحكم به بالاعتقاد..
تعددت صور خصم الجغرافيا. بالاحتلال والقوة القاهرة. كما بالاختلال والضعف، الذى يطابق ويساوى ويماثل الاحتلال. إنما، ولا مرة، تحركت فيها الجغرافيا أو تم تحريكها، زيادة أو نقصانا، إلا ونشأت بالضرورة سياسة جديدة أو إدارة سياسية جديدة، تناسب تغير الجغرافيا.
فما هى بالضبط السياسة، التى وجدت أو أوجدت فى مصر ومع مصر. بالتوزيع أو «التنسيق» الجغرافى الجديد لجزيرتى صنافر وتيران.؟
يبقى أولا الإشارة إلى أن مصر أقامت من خلال،«طيبة»، التى هى الأقصر الحالية. وبقيادة أحمس إمبراطورية قادرة على العالم، وفى العالم، الذى هو عالمها فى زمنه. ثم حكمت بقيادة محمد على «شبه إمبراطورية»، دانت لها أغلب مكونات وأجزاء ما كانت امبراطورية تحكمها فى سالف التاريخ الفرعونى.
وقد قوبلت «إمبراطورية أحمس»، و«شبه إمبراطورية محمد على» من القوى القاهرة، أو تلك، التى امتلكت القدرة، فاستطاعت، بالإضعاف والغزو والاحتلال والتجزئة والتقسيم، الذى امتد قرونا وعقودا، لا سنوات، أو سنين عددا.
إنما عبر كل ما جرى إجمالا، وأرسى من وقائع. ربما يكون ماثلا فى درس لا غنى عنه، صار قانونا. وماثلا فى فهم، لما تم فرضه أخيرا على مصر داخليا، قبل خارجيا، إزاء «شبه إمبراطورية محمد على» بيد الأوربيين الغزاة أولا. ثم صار اتباعا أمريكيا مع مصر. وبشأنها منذ ذلك التاريخ وحتى حينه.
أما الدرس أو القانون، فهو أن مصر بالرغم من كل تحريك أو تقسيم أو إعادة تقسيم الجغرافيا، فإنها تستطيع العيش بل تعيش وسط انقسام خارجها وما حولها.
إنما أبدا، فلم يثبت مرة أنها عاشت وهى منقسمة، مقسمة الداخل، فقد انهارت. وتنهار، ما دامت منقسمة مقسمة.
أما ما نشأ فى مصر، أو تمت إقامته عقابا أو منعا، وتمت صناعته جدارا منيعا أو حائلا ضامنا، لعدم تكرار توسعها شبه الإمبراطورى مع محمد على. فقد جاء فى داخلها بما يلف عقلها «ويلخم» حالها، فتبقى أسيرة انقسام سياسى - اجتماعى داخلى منفصم، لا يلحم اعتقاده بالعلم بالسياسة الوطنية القادرة.
من يومها تم إرساء القواعد، التى تلزم مصر، أو تجبرها على عدم الامتداد والتوسع الجغرافى. كما تقضى طبيعة المكان والمكانة. وكما حدث، ويظل قابلا للحدوث.
وجاءت القواعد المانعة الحائلة كالتالى:
- سلطة كهنوتية يتم اختيارها بالكهنوت الإدارى ومراعاة الرضا الدولى أو رعاية مصالحه، وليس بالشعب، أو بما يطابق اعتقاده الوطنى. تخضع وترسم سياساتها لمعادلات تفرضها القوى الدولية القاهرة، لا بالاعتقاد الوطنى، فتبدو بالنسبة والتناسب بين ما هو دولى قاهر، ووطنى غير قادر، أو مستبعد. وكأن المخول لها فقط. لا يتعدى واقعيا أو فعليا. ما تحوزه أو تملكه من مجال سوى سلطة الحكم الذاتى الإدارى.
- إقامة ركائز مادية اجتماعية مرتبطة مصلحيا بالقوى الدولية القادرة، بل ومندمجة ثقافيا معها، وتظل بطبعها، وعلى ما تم بسطه لها من نفوذ ومكانة وسيادة داخلية غريبة، ومتغربة، عن سواد وأغلبية مجتمعها المحلى. إنما متحكمة ونافذة باستمرار، من خلال عملها موزعا للمصالح والوظائف داخل المجتمع.
- توزيع الانقسامات وشيوعها داخل العقل والمجتمع المصرى، فمن يومها
انقلبنا عنصرين تحت راية «الهلال والصليب»، وليس عنصرا واحدا، وصارت الأقلية السياسية - الاجتماعية، بكافة أشكالها، وصورها تحكم، وتتحكم، وصودرت سيادة الأغلبية ثقافيا، وسياسيا، واجتماعيا، حتى أصبحت لا تجد معاملة، أو معالجة، سوى «بسياسات الشفقة لمحدودى الدخل». أو التمسح والتذرع «بالمقدسات الوطنية والدينية»، إزاء الهزائم والخيبات الوطنية.
- إقامة وتكريس قواعد البيروقراطية داخل الدولة والمجتمع، وفى العلاقة بينهما وبما يجعل الدولة سيدا بذاتها فوق المجتمع سلطة منفصلة، ومنفصمة، عنه باستمرار، وليست، مجرد منظم ومدير لعلاقات ومصالح وحركة المجتمع. وممثلا خاضعا لمقتضياته ومصالحه الوطنية.
من ساعتها ومصر لا تحكم. كما كانت تحكم. فما عادت تحكم، لا جغرافيا، ولا سياسة تطابق اعتقادها الوطنى، فظل خصم الجغرافيا قائما ومتواليا، وظلت السياسة خصما للاعتقاد الوطنى. وخصما منه. وظل الاعتقاد مخاصما سياسة إدارة الجبر الدولى والخصم الجغرافى. وبتنا نحسب أنفسنا عناصر، لا عنصرا واحدا، حتى صرنا جيشا وشعبا وحكومة فوق الشعب، تصرف الشعب، وتتصرف بلا شعب، وأقلية محتكرة تحتكر الشعب، وبيروقراطية حاكمة تزهق روح الشعب، ومسلما وقبطيا، وأزهرا وكنيسة وأتباعا، لا متبوعين، وأسرى احتلال بغير عسكرى. وبما لا يمنع، أو يحول، دون الاحتلال العسكرى.
وفاتنا تحرر طيبة بالاعتقاد والعلم.
ولم يفت اليابان، التى تعلمت، ما لم نتعلم مع أننا من بادر بصوغ قانونه، حتى وجدنا أنفسنا فى معادلة جديدة. فرضت علينا ما فرضت. فصارت حكما دوليا إقليميا. لم يخصم منا على مستوى الجغرافيا فقط. إنما على مستوى القدرة والمناعة الداخلية أيضا. كماه ى النتيجة الماثلة فى خصام وطنى يحمل بوادر صدام.
خلاصة القول:
وماذا بعد؟ فى أى وضع نحن الآن؟ ما الذى سنحيا فيه ومعه؟ ما هو الطريق؟
أين المخرج؟
أسئلة اللحظة والغد. رب لنا غد نحيا فيه فنجتهد فى الإجابة
قل: إن شاء الله.