تمثل العلاقات المدنية- العسكرية واحدة من أهم المعضلات التي تواجه الفكر والسياسة في مصر. وفضلا عن أنها بحد ذاتها شديدة التعقيد، فإن التطرق إليها يثير حساسية شديدة تسبق مجرد طرحها أو مناقشتها. إنما يبدو واضحا أنها واحدة من الأزمات الكبرى التي تعوق النمو والتقدم المصرى بشكل كبير.
ربما تعود جذور الأزمة إلى عام ١٩٥٢. فمع قيام الجيش بالسيطرة على السلطة في مصر أصبح الجيش بديلا موضوعيا للمدنيين في صياغة وإدارة العلاقات السياسية والاجتماعية داخل البلاد.
لكن هذه الوضعية، التي تُقر مبدئيا بفشل المدنيين في إدارة المجتمع ومصالحه، أو عدم أهليتهم، ثبت بالتجربة ومرور السنوات منذ عام ٥٢ أنها أزمة بحد ذاتها، بالرغم من محاولات التهذيب التي جرت على دولة ٥٢ في مراحلها المتعاقبة، فقد أدت هذه الأزمة في الختام إلى انفجار يناير الكبير من جانب القطاع المدنى.
الثابت بوضوح أن التنافر العسكرى- المدنى، الذي يقضى بهيمنة طرف دون آخر، أو إعلاء طرف على طرف، أو إقصاء طرف على حساب الآخر، إنما يؤدى إلى فقدان البلاد أهم أسس أمنها السياسى والاجتماعى والاقتصادى، فضلا عن أن الاتجاهات الحديثة في مفاهيم العلاقات العسكرية- المدنية، وتجارب أغلب المجتمعات المعتبرة صارت تعتمد مبدأ التفاعل المدنى- العسكرى، دون إقصاء لأحدهما.
ونظن أن ما يصلح لمصر حاضرا قبل المستقبل هو اعتماد مبادئ وأساليب التفاعل المدنى- العسكرى كقاعدة للتعامل في إدارة البلاد، بحيث يظل الجيش مدرسة لتزويد المجتمع بالكوادر والخبرات المتعددة، جنبا إلى جنب مع الكوادر والخبرات التي يفرزها القطاع المدنى، ضمن قواعد واضحة لا تخلط بين طبيعة وحدود أدوار كل منهما.
■ ■ ■
تسيطر على العقل المصرى منذ عشرينيات القرن الماضى حتى حينه أفكار وسياسات أربع مدارس رئيسية، هي:
١- المدرسة الوطنية العامة، التي توصف خطأً بالمدرسة «الليبرالية»، حيث لم تقم بمصر تجربة ليبرالية بالمعنى الدقيق والعلمى لمثل هذا المصطلح.
٢- المدرسة الدينية، وبالأدق مدرسة التأويل الدينى بفروعها المختلفة، من إخوان وسلف وخلافه.
٣- المدرسة الماركسية بفروعها المختلفة في التنظيمات الشيوعية.
٤- أخيرا المدرسة القومية بفرعها الناصرى، الذي تجلى كتجربة حكم عقب ١٩٥٢.
ودون مراجعة فاحصة لأفكار وسياسات ونتائج هذه المدارس، فلا نظن أن بقدرة العقل المصرى استخلاص رؤية سليمة بقدر يناسب متطلبات ودواعى الحاضر والمستقبل.
ولدينا في هذا الصدد مجموعة من الملاحظات، نجملها وعلى مستوى النتائج الكلية في الآتى:
■ بينما تبدو المدرسة الوطنية العامة ملتزمة بحدود الوطنية المصرية على حد الاصطلاح، تبدو المدارس الثلاث الأخرى عابرة للوطنية على حد الاصطلاح أيضا، ولا يعنى هذا أبدا أنها لم تضم شخوصا وتكوينات ذات توجهات وطنية أصيلة، إنما حساب تمييزها على هذا النحو ينبع من أفكارها ومناهجها الرئيسية.
■ حظيت المدرسة الوطنية العامة باستمرار بثقة أغلبية المصريين، حسبما تشير إلى ذلك نتائج الانتخابات العامة، بالأخص في المراحل السابقة على عام ١٩٥٢، الوضع الذي يجعلها مدرسة الأغلبية المصرية، عكس المدارس الثلاث الأخرى، التي احتلت دوماً موقع الأقليات السياسية والفكرية في مصر، ما أبرز لدى أقسامها أو فروعها الرئيسية بالأخص نزوعا نحو أعمال السخط والانقلاب على الأغلبية، فمعاً اشتركت مدارس الأقليات السياسية والفكرية في صنع لحظة ٥٢، ومعاً تصارعت، حتى دان الوضع لعبدالناصر، فسادت الناصرية كنظام حكم، ومعاً حاولت السيطرة على يناير ٢٠١١، ومعاً تصارعت، فسادت فوضى، وسالت دماء، لكنها في كل ذلك أبرزت مسألة أساسية وسؤالا جوهريا:
إذ كيف يمكنك أن تحكم أغلبية بأفكار وسياسات أقلية؟ ثم كيف يمكنك أن تحكم أغلبية بأقلية؟
بالمناسبة، لا يُستثنى من هذا التقويم صعود الإخوان لحكم البلاد بعد يناير، بوصفها لحظة لا يصلح القياس عليها لظروفها ومواضعاتها الاستثنائية والقسرية أيضا.
■ يبقى من شأن المدرسة الوطنية العامة أنها أقامت دولة بالرغم من الاحتلال البريطانى، وإلا كيف نصف ونصنف ما صنعه طلعت حرب على سبيل المثال، وليس الحصر، الوضع الذي مكّن البلاد من إجلاء الاستعمار البريطانى دون تكلفة باهظة بحسب ما عانت وتعانى الأمم المحتلة، بينما يبقى في ذمة مدارس الأقليات الفكرية والسياسية أنها أهدرت قدرات دولة بعد الاستقلال، بل وجلبت احتلالاً بعد استقلال، كما يبقى من شأن مدرسة الأغلبية المصرية أنها نجحت كليا فيما جعلته مدارس الأقليات الفكرية والسياسية أساساً لدعوتها، بل وفشلت الأخيرة بذاتها في تحقيقه. فقد ظل ويظل من طبعها الإقصاء حتى لبعضها البعض، بينما زينة مدرسة الأغلبية المصرية الإتاحة والاندماج والتعايش والمشاركة، ليس بين المصريين فقط، بل وغيرهم من بين المسلمين والعرب والإنسانية، وباختلاف الطوائف والأعراق، فصارت نموذجا يذوبون فيه بوجدهم، وإلا ماذا تسمى شاعر الوجد المصرى فؤاد حداد، ذا الأصل المارونى اللبنانى، وماذا تسمى فريد الأطرش وأخته أسمهان، وهما من دروز لبنان، وماذا تسمى فايزة أحمد ذات الأصول السورية، وبيرم التونسى، ويعقوب صنوع أبوالمسرح المصرى، وبشارة تقلا، الذي أنشأ جريدة الأهرام، وجورجى زيدان، الذي أنشأ دار الهلال، واسأل من أنشأ مدارس البنات في مصر، تجدهن سوريات، ولا يفوتك جمال الدين الأفغانى، ولا يفوتك أيضا أن القائمة طويلة وبأكثر مما يتسع مقال، ولا يفوتك أخيرا، وليس آخرا، أن تترك السؤال يلح في السؤال:
لماذا لم تنتج مدارس الأقليات، ولو بمثل ما أنتجت مدرسة الأغلبية المصرية، وهم من قاموا، بل قالوا، ويقولون إنهم قاموا من أجل وحدة المسلمين ووحدة العرب ووحدة الإنسانية، فلا بقى مسلمون بلا انقسام، ولا بقى عرب بلا انهيار، ولا بقيت إنسانية بعد أن غادرتهم الإنسانية، فحلّ التوحش، وطفقت الهجرة واللجوء والموت في ظلمات البحار أرحم على أي نحو من بشاعة الأوطان.