بعد مايقرب من ٣ سنوات من ٣٠ يونيو، لايبدو واضحا. أو مؤكدا أن مصر قد برئت بصورة نهائية وتامة من الفوضى، وأوضاع ومظاهر اللادولة، التى لحقت بها بعد يناير ٢٠١١.
الجدل بشأن ماهية يناير ويونيو أو الموقف منهما، ليس مسألة هذا الطرح. إنما النتائج الواقعية للأحداث.
أنتجت يناير ٢٠١١ بصورة مباشرة فوضى اجتماعيه- سياسية. كان طبيعيا أن تلقى بآثار سلبية ثقيلة على مجمل الأوضاع الأمنية والاقتصادية. ومن ثم تراجع أو إضعاف الوضع العام للبلاد، وبالأحرى معادلات القوة الشاملة لها.
وبينما كان مأمولا أن تكون ٣٠ يونيو منقذا للبلاد من أوضاع الفوضى والضعف، فإن مايبدو جاريا، وربما ماثلا حتى حينه، أن هناك مرحلة أخرى، أو درجة أكثر تكثيفا لفوضى ماثلة بين مكونات الدولة الرئيسية. الوضع، الذى يعنى أن أوضاع الفوضى ومظاهر اللادولة مازالت تجد تحوّرا فى صور مختلفة، مالم تجد علاجا جوهريا جذريا وفى العمق.
أين تكمن المشكلة؟
لم تضرب يناير جسد الدولة فى مصر. إنما بالأحرى فجرت دولة ٥٢، بكل ماارتكنت إليه وعاشت به على مدى مايقرب من ٦٠ سنة. وبينما كان منتظرا أن تستعيد٣٠ يونيو ماهية الدولة بصيغة جديدة أو على الأقل مغايرة لدولة ٥٢، وجدناها تقع أسيرة محاولات إعادة دولة ٥٢ من أول سطر فيها. دونما اعتبار أنها لو بقيت صالحة لحياة اليوم ما انفجرت على النحو الذى قضت به نحبها فى يناير ٢٠١١.
يبدو مدهشا أنه بخلاف يناير، التى شكلت ثورة تطلعات الفئات الوسطى بدرجاتها المختلفة عمادها وقلبها الرئيسى، فقد جاءت ٣٠ يونيو من طرف قوى دولة رئيسية ذات أرصدة اجتماعية ضخمة وشعبية حاشدة، وأخرى فرعية تابعة ملحقة بذاتها، أو بدفع الأحداث.
وبينما جاءت يناير بلاعقل سياسى، أتت يونيو بلا فكر جديد، وبلاجسد سياسى، فصارت أزمة التكوين ماثلة ومتصلة فى الحالتين.
على كل، لايعنينا هنا وجه المقارنة بين يناير ويونيو، وأبدا، وليس بالمرة، المفاضلة بينهما. إنما أسباب ودواعى أزمة الفوضى واستمرار صور وأوضاع اللادولة، أو على الأقل بعض مركباتها وعناصرها، بالرغم من حدوث يونيو بعد يناير.
ما الذى يجعل من يونيو هكذا.. ولماذا لاتمثل خروجا حاسما عن نتائج يناير حتى الآن؟
ضرورى أن نسأل هنا: ماهى ٣٠ يونيو؟
هى حاصل تفاعل وتحالف وإرادة ٤ مؤسسات رئيسية ذات نفوذ اجتماعى هائل تتمثل فى:
■ الجيش وملحقاته الأمنية والإدارية والحكومية بصفة عامة.
■ الكنيسة.
■ الأزهر.
■ القضاء.
بالإضافة إلى قوى فرعية تتمثل فى:
■ مراكز نفوذ مالية.
■ الإعلام.
■ قوى وأحزاب سياسية.
الشاهد أن تحالف المؤسسات الرئيسية والأخرى الفرعية بقيادة الجيش نجح فى إقصاء الإخوان ومواليهم عن الحكم والسيطرة والحد من استمرار نزيف قوة البلاد بصورة نسبية، فى حين لايبدو ناجحا حتى الآن فى بناء صياغة جديدة للدولة، والعلاقات المنظمة لها.
ويضاعف من المشكلة باستمرار أن مكونات تحالف ٣٠ يونيو لم تعد إلى أوضاعها الطبيعية، والالتزام بحدود أدوارها الطبيعية، والمحددة دستورا وقانونا وتقاليد وأعرافا فى بنية ومكونات أى دولة.
وتعدت هذا إلى ممارسة أدوار سياسية تناقض طبيعتها الوظيفية وطبيعة أدوارها، بل وتحصنت فى مراكز نفوذ جعلت من الوضع فى صورة مراكز قوى متضاربة المصالح، ومنها من اكتسب للأسف حصانات دستورية، وبوضع اليد، جعلت من مثل هذه الأوضاع تكتسب ملبسا شرعيا غير مشروع ولاشرعى، لأنه إطار لتنظيم فوضى، وليس لتنظيم أوضاع. دولة طبيعية، ولن نقول مستقرة.
الحاصل بوضوح أن الرئيس المنتخب ليس بقدرته تعيين وزير للدفاع، أو اختيار غيره، بغير إرادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة لدورتين رئاسيتين كاملتين، بالرغم من أن منصب وزير الدفاع فى أصله وفصله سياسى، ويتبع السلطة التنفيذية، ولا أحد غيرها.
وقد صارت الكنيسة صاحبة نفوذ سياسى يحدد مرشحين فى الانتخابات، يوصى بهذا، وينبذ ذاك، مع أن دورها رعوى دينى، ليس إلا.
وبالمثل يرفض الأزهر إخراج ُداعش وأخواتها من التمسح بالدِّين الحنيف فى وطن يتم قتل أبنائه بوحشية يوميا، وعلى مدار الساعة، بل ومنحه الدستور «المرجعية الدينية»، لاتباع دين لم يمنح نبيه الكريم (صلعم) سلطة، ولاتحكما فى بشر.
وتعددت صور النفوذ القضائى، وبقوته صعد إلى وزارة العدل وزيرا، عبر بصلافة منقطعة النظير، فى كل قول وفعل، عما يركن إليه من نفوذ، تصوره طاغيا، حتى إنه رفض وبعض من طائفته إنزاله، أو قل إخراجه من مقعد الوزارة.
وإن كنّا ضربنا أمثلة على مستوى قوى يونيو الرئيسية، فحدث ولاحرج عن الأخرى الفرعية.
قل ماتشاء فى وقائع مشهودة، مازالت تفقأ كل عين، وتذهب كل عقل، عن رجال أموال يقولون عنهم إنهم رجال أعمال، وآخرين يسمونهم إعلاميين، وماهم كذلك، إنما شبه لهم. وكذلك مجموعات، أو فرق تسمى أحزابا، وماهى بأحزاب، إنما سموها كذلك.
الكارثة، ثم الكارثة، فالكارثة أن كل هذا يجرى، وتتوالى فصوله تباعا، والبلاد محاطة بتكالب ضباع يهددها من أركانها الأربعة، بل ومن داخلها أيضا، ومن كل حدب وصوب.
■ فماهو الحل أو العلاج إذن؟
لانظن أنه بالإمكان صياغة رؤية جديدة لمصر الحاضر والمستقبل دون الحسم الواضح لمسألتين حاكمتين هما:
١- بلورة جديدة للعلاقات المدنية- العسكرية القائمة داخل المجتمع المصرى.
٢- مراجعة نتائج المدارس، التى شكلت الفكر والسياسة فى مصر. منذ عشرينيات القرن الماضى، وحتى الآن.