لا حديث يعلو فوق أزمة جزيرتي تيران وصنافير، والتساؤل عن ملكيتها وهل هي مصرية خالصة أم هي سعودية؟ ولماذا ظهر مشهد تسليم مصر الجزيرتين للسعودية بهذا الشكل؟ وما سبب صمت الدولة عن الأمر وعدم مصارحة الشعب بما له وما عليه؟ وغيرها من الأسئلة التي تنطلق رصاصاتها بالحديث عن الكرامة والسيادة والبعد عن «الاشتغالات»، والثقة في أن الوطن يحكمه رجال لا يفرطون في شبر واحد من أرضه.
وسواء كانت تيران وصنافير مصرية أو سعودية، كان ينبغي خروج المشهد بشكل يليق بعبارات دائما نرددها بمنطق «أم الدنيا» و«قلب العروبة» و«كبيرة المنطقة»، فالدولة أدارت الأمر بفكر «مخابراتي حربي»، رغم أن أمور السياسة لا ينفع معها «الغموض»، كما هو الحال في الأمور العسكرية التي تحتاج إلى مباغتة تحقق الهدف بأقل قدر من الخسائر، لكنْ هناك فارق كبير بين إدارة هيئة عسكرية وإدارة دولة مدنية.
وهنا نعود لسطور الختام في مذكرات المشير محمد عبدالغني الجمسي، الذي كتب: «لقد كنت جنديًا محترفًا طوال مدة خدمتي، وأعتز بذلك كثيرًا إيمانًا مني بأن السياسة إذا دخلت الجيش أفسدته»، في معرض تعليقه على خروجه من المؤسسة العسكرية وعدم غوصه في بحر السياسة.
وبعد 25 عامًا من كلمات الجمسي، الذي كان يرأس هيئة عمليات القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر 1973، يبدو أن المشير عبدالفتاح السيسي قرر الأخذ بنصيحته وخلع بدلته العسكرية للنزول إلى ملعب السياسة ويكون مرشحًا رئاسيًا يصل إلى سُدة الحكم باكتساح، لكن يبدو أن مدرسة «المخابرات»، التي تدرج فيها تسيطر على أسلوب إدارته للدولة، وهو ما يتسبب في حالة شد وجذب مع كل خطوة يقررها بعكس الحال في المؤسسة العسكرية التي تعتمد تقاليدها العريقة على طاعة الأوامر وتنفيذها دون نقاش كي يتحقق نجاحها فلا مجال للديمقراطية التي قد تقسم أهداف القوات.
لكن الدولة بشكلها المدني تقوم على الديمقراطية التي ارتضاها الرئيس كي تكون حاكمة لخطواته بالدستور الذي أقسم عليه، فيكون اتخاذ القرارات الرئاسية والحكومية بمبدأ احترام الدستور الذي يشترط في المادة 151 بشأن حالة مثل جزيرتي تيران وصنافير، الرجوع للشعب فيما يتعلق بأعمال السيادة، وبالتالي حُسن إدارة الدولة لا يعني أخذ قرارات دون عناية بمواد الدستور بحجة ضرورات الأمن القومي والخوف من «أهل الشر»، لأن هذا يعني أن صفحات الدستور ما هي إلا كتاب يزين مكتبك وفي أسوأ الأحوال يمكن إلقاء بنوده من الشباك حال كان حِملًا ثقيلًا.
وسبق للسيسي الحديث عما سماه «إعلام عبدالناصر» كي يدفع معه الدولة للأمام، وكيف أن الزعيم الراحل كان «محظوظًا»، لكن الرئيس عليه أن يدرك أن فرض سياسة «التعتيم» لضرورات لن يدركها إلا بعد مرور الأيام، لا جدوى لها، فالناس ترفض المفاجآت في عصر أصبح فيه الوصول إلى المعلومة في «غمضة عين»، وبالتالي لا تَلُم الباحث عن معلومة لأنك لا تعطي الإعلام إلا الفتات، ومن باب أولى التفكير في تشريع يأمر المسؤول باحترام حق المواطنين في حرية تداول المعلومات.
فلا يصح أن نستيقظ على أخبار جزيرتي تيران وصنافير دون وجود معلومة رسمية شافية وافية تتحدث عن الأمر، وعند وجود معلومة فتكون بعد «الهنا بسنة»، فتخرج صحيفة الأهرام، لسان حال الدولة، على صدر صفحتها الأولى تؤكد أن «اتصالات مصرية إسرائيلية تمت أخيرًا، أطلع الجانب المصري خلالها الجانب الإسرائيلي على التطورات الخاصة بتوقيع مصر والسعودية اتفاقية تعيين الحدود البحرية في خليج العقبة، وما يترتب على ذلك من آثار تمس معاهدة السلام الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1979».
ولا تكتفي «الأهرام» بتلك المعلومة فحسب، وإنما تضيف: «كما أطلع الجانب المصري الجانب الإسرائيلي على خطاب ولي ولي عهد السعودية، الأمير محمد بن سلمان، لرئيس الحكومة المصرية، المهندس شريف إسماعيل، الذي جاء فيه أن السعودية ستحترم تنفيذ الالتزامات التي كانت على مصر وفقًا للمعاهدة، وذلك في حالة سريان الاتفاقية بعد تصديق مجلس النواب عليها وفقا للدستور، وهذه الالتزامات هي استمرار وجود القوات متعددة الجنسيات لحفظ السلام لضمان عدم استخدام جزيرتي صنافير وتيران للأغراض العسكرية وحرية الملاحة في خليج العقبة».
كأن منح المعلومة إلى إسرائيل وطمأنتها أهم من ملايين المصريين الذين يعيشون في دولة تحتاج إلى التفكير في إدارتها الإعلامية حتى لا تصاب سفينتها بالغرق، فهي تحتاج إلى نسف فكرها الإعلامي، والاعتماد على مخاطبة الجمهور واستمالته بالحجة والمنطق وإقناعه بما يريد. المنظومة الإعلامية للدولة تحتاج لأن تكون مع الناس خطوة بخطوة دون الاعتماد على سياسة إطفاء الحرائق أو الذهاب إلى مكان الحريق بعد أن يكون أكل الجميع، فالملك سلمان بن عبدالعزيز ضيف على مصر صحيح، لكن الضيافة لا تعني أن يكون الإعلام بوابة أغانٍ تردد «أهلًا ومرحبتين»، دون إخبار الناس بمعلومة واحدة رسمية تُرضي الباحثين عن حقيقة ملكية تيران وصنافير، ولا يكون الحديث عنها بعدما تغادر طائرة خادم الحرمين الشريفين أجواء الجمهورية المصرية.
فالدولة تحتاج لإدارة إعلامية تعي أهمية الإعلام وتخاطب المتلقي لأفكارها بأدواته لا أن تصمت بالساعات ثم ترد عليه بعد فوات الأوان، وفي مصر مؤسسات إعلامية بها أشخاص إن تمت الاستعانة بهم إلى جانب من هم كفاءات في تخصص الإعلام بكلياتهم فقد يتبدل الحال بما لهم من رؤى وأفكار.
باب الإعلام والبحث عن المعلومة فتح بابًا آخر أمام أمر إيجابي، وهو عودة الناس للقراءة والاطلاع، فالكل يريد دعم وجهة نظره بما يرضيه من معلومات، فهذا يستند إلى جمال حمدان وحديثه عن شرم الشيخ بكونها قاعدة استراتيجية مهمة من الناحية الجنوبية من خلال تيران في افتتاحية كتابه الذي سطّره بعنوان «سيناء»، وهناك شخص آخر يسند إلى صاحب «شخصية مصر» سطورًا تدعي ملكية الجزيرتين للسعودية، وثالث يدفع ببراءة «حمدان» من ذلك ويقول إن السطور منسوبة لكتاب ثان لم يكن بقلمه، بينما رابع يؤكد الملكية المصرية بخرائط عثمانية اعتمدت عليها مصر وقت ترسيم حدود طابا.
حالة القراءة دفعت إلى وجود الأستاذ محمد حسنين هيكل ليدلي بسطوره من خلال كتاب «سنوات الغليان»، الذي كتبه وكأنه يتنبأ بالجدل الدائر فكانت مقدمة كتابه مهداة «إلى الذين أضناهم البحث، وعذبهم الشك، وأرهقوا أنفسهم والآخرين، بسؤال واحد ملك عليهم فكرهم وأعصابهم: أين الحقيقة؟». وفي فصل «لغم في خليج العقبة»، يكتب هيكل في الصفحة رقم 91 عن ملكية السعودية للجزيرتين، وتستمر رحلة البحث، وهو ما يعد أمرًا طيبًا بعيدًا عن حالة «الفتي» التي دائما ما تلاحق شبكات التواصل الاجتماعي وتكون سندًا للضعفاء في التحجج بأن المقيمين على تلك الشبكات «ناس فاضية».
وحالة «الفتي» تدفع بضرورة خروج شخصيات مثل الدكتور مفيد شهاب، الذي ورد اسمه ضمن حديث وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، مع رؤساء تحرير صحف مصرية ومجموعة من الإعلاميين، حيث قال إنه يعلم مدى تبعية الجزيرتين لحدود المملكة، وبالتالي على الدكتور مفيد الحديث ولو بمقال حتى يستفيض في شرح وجهة نظره إذا كان لا يريد الظهور في القنوات الفضائية.
ومع أهمية دور الإعلام الذي تحتاج له السلطة، فالدولة في حاجة إلى فريق أزمات يدبر لها أمورها ويجعلها تعرف متى تخاطب الجمهور، وتختار التوقيت المناسب للحديث معه، والتمهيد له دون اتباع سياسة الصدمة أو مبدأ «ده اللي عندنا إن كان عاجبك»، فالأمر عندما يتعلق بالأرض لا يحتاج إلى آراء وإنما يحتاج إلى تأكيد حقيقة واحدة أن مصر بجيشها وشعبها لا يفرطان في حبة من رملها، فلا معنى لأن تضحي وتكون قضيتك حياة أو موتًا.. وتختار الموت.. وتضع نفسك في مرمى اتهامات ترى أنك اخترت الموت من أجل حِفنة ريـالات.. بينما أنت تُقسم على غير ذلك.. وتؤمن برد الأمانات لأصحابها.