x

معتز نادي جمعية محمود عوض معتز نادي الخميس 28-08-2014 13:49


كلما نظرت إلى كتبك أجد نفسي أريد البكاء على رحيلك لكنني أحبس دموعي كما علمتني أن الرجال، الذين يعرفون محمود عوض عليهم أن يكونوا أشداء، لكنني أصارحك بأن القلب يعاني من مرارة لا يمكن وصف قسوتها.

اخترت الرحيل في مثل تلك اللحظات، منذ 5 سنوات، تاركًا قلمك في هدوء بعيدًا عن سطورك المشاغبة في الحياة، ومع ذلك بقيت حاضرًا معي كلما تحركت، مستمدًّا من كلماتك الصبر على فراقك، مقدمًا اعتذاري إليك لأنني لم أعرفك إلا متأخرًا ليخطفك الموت قبل أن أتعلم منك في حياتك، التي كانت تقدس الكتابة.

الفضل في معرفتي بمحمود عوض يعود إلى يسري فودة عندما قرر في أحد الأيام أن يكتب عنه تحت عنوان «رجل مهم في زمن تافه» في صحيفة اليوم السابع.

كان عمري يقترب من العشرين، عندما قررت أن أعرف من هذا الرجل المهم، ولماذا يصفه يسري فودة هكذا.

وبجانب فضول معرفتي ظهرت حيرة ملخصها في أنني لم أعثر على كتب الرجل المهم في أي مكتبة وكان السبب وقتها: «الكتب دي مابقتش تنزل السوق» أو «كانت الكتب موجودة وخلصت ومش عارفين هتطبع تاني إمتى»، الأمر، الذي شدني أكثر لضرورة التعرف على شخصيته.

وكان الذهاب إلى سور الأزبكية هو الحل، لعل وعسى أجد كتابًا بإمضاء الرجل، الذي عاش في «زمن تافه»، فكان من حسن حظي أن عثرت على نحو 560 صفحة بعنوان «وعليكم السلام» للكاتب محمود عوض.

انتهيت من قراءة الكتاب، الذي أعتبره خير دليل لفهم الصراع العربي الإسرائيلي، وأدركت وقتها أن الرجل المهم اختار أن يكون جنديًا مجهولًا يعيش ويموت من أجل الكتابة حتى ولو اشتد عليه الألم وجسده منهك في العناية المركزة، فكان تفكيره في تقديم وثائق تنشر لأول مرة عن جهود مصر للتغلب على مرارة الأيام الستة الممثلة في هزيمة يونيو عام 1967، للوصول إلى ما يراه «اليوم السابع» وهو عنوان كتابه الأخير، الذي قدم صفحاته تقديرًا لأبطال حرب أكتوبر 1973.

وقتها، قررت أن أكون تلميذًا في مدرسة محمود عوض، منبهرًا بآرائه وأفكاره، نادمًا على معرفتي شخصيته متأخرًا.

في السنة الأخيرة من دراستي في كلية الإعلام جامعة القاهرة، عام 2010، كنت و9 من زملاء وزميلات الدفعة نبحث عن فكرة نقدمها ضمن مشروعات التخرج الخاصة بقسم الإذاعة والتليفزيون.

بدأنا البحث عما يمكن أن نقدمه منذ بدء الفصل الدراسي الأول، وعقب كل محاضرة نجتمع لمعرفة آخر فكرة نستطيع كتابة السيناريو لها وتصويرها للمتلقي في فيلم وثائقي لا تتجاوز مدته 10 دقائق على أقصى تقدير.

وكانت الاجتماعات تنتهي إلى لا شيء، إلى أن فاجأتهم في مرة بأن يكون مشروع التخرج عن الأستاذ محمود عوض، فكان الرد وقتها في نفس واحد منهم: «مين محمود عوض؟».

صدمت وقتها من سؤالهم لكنني قررت خوض المغامرة إلى النهاية، فجلست أسرد لهم تاريخ الرجل، وكيف أنه صحفي موهوب أتمنى أن نكون مثله، خاصة أنه بارع في تقديم المعلومة للقارئ كما كان يفعل في «أخبار اليوم»، وكيف لي أن تعلمت منه قصة الصراع العربي الإسرائيلي من خلال كتابه «وعليكم السلام»، بعدما أعجبني شعاره «اعرف عدوك»، فضلًا عن كونه كاتبًا موسوعيًا يحدثك في شؤون مختلفة من الفن إلى السياسة وصولًا إلى الكرة والسياحة، فهو مكتبة متنقلة.

وواصلت أشرح لهم كيف أنه معتز بما يكتبه ولا يقدم للقارئ سوى ما يقتنع به، وما تعرض له من مضايقات في عمله بسبب صغر سنه ووصوله بكفاءته إلى منصب سكرتير تحرير صحيفة «الأخبار» وهو في العشرينيات من عمره، والعقاب، الذي تعرض له بمنعه من الكتابة في مصر نظرًا لآرائه، وهو عقاب لا يحبه أي كاتب.. و.. و.. و.. وكان الخوف لدى بعض الزملاء من أن يكون الفيلم نصيبه «الفشل» نظرًا لأن كاتبنا الراحل غير معروف لدى كثيرين من زملاء جيلنا، فضلًا عن أن لجنة التحكيم قد لا تمنحنا المركز الأول وغيرها من الحجج.

وكانت حجة عدم معرفة كثيرين بـ«عندليب الصحافة»، كما كان يسميه إحسان عبدالقدوس، أو محمود عوض كما هو معروف على كل غلاف لكتبه، المدخل لدي لإقناعهم بتقديم الفكرة، متمسكًا بمبدأ تعريف المتلقي كل ما هو مجهول ويمكن أن يفيده ثقافة ومعرفة، وكيف أن شخصا مثله كان يعامله الموسيقار محمد عبدالوهاب كابن له يأخذ رأيه في أغانيه وألحانه، وكيف أنه لم يرض بأن تتدخل أم كلثوم في مقدمة كتابه، الذي أعده عنها، بالإضافة لكونه مخضرمًا في تحليلاته السياسية سواء على مستوى الدفاع عن حرية التعبير أو مواجهة العدو الإسرائيلي، لكنه رغم كل ذلك مات وحيدًا في 28 أغسطس 2009.

واكتشف رحيله بالصدفة عندما ظلت الجرائد لمدة يومين أمام باب شقته، القريبة من نطاق السفارة الإسرائيلية بالجيزة، ليأتي شقيقه ويكسر الباب، ويكون الجواب أنه مات دون أن يدري به أحد.

انتهى اجتماع مشروع التخرج بين متحمس للفكرة ومعارض لها، وبدأت ألجأ لحمل كتبه لأوزعها عليهم لقراءة فقرات محددة منها لعل وعسى يتعرفون على أفكاره، فهذه فقرة من كتابه «أفكار ضد الرصاص»، الذي وزع أكثر من 250 ألف نسخة وقت صدوره، تقول: «إنني أستطيع أن أعطيك قلبي.. فأصبح عاشقًا.. أعطيك طعامي.. فأصبح جائعًا.. أعطيك ثروتي.. فأصبح فقيرا.. أعطيك عمري.. فأصبح ذكرى.. ولكنى لا أستطيع أن أعطيك حريتي.. إن حريتي هي دمائي، هي عقلي، هي خبز حياتي.. إنني لو أعطيتك إياها فإنني أصبح قطيعًا، شيئًا له ماض ولكن ليس أمامه مستقبل».

وفقرة أخرى من كتابه «متمردون لوجه الله»، الذي أعتبره دستورًا في عملي، تقول: «من يصبح حرًّا مرة.. يظل حرًّا طوال العمر»، في إشارة منه إلى أهمية التمرد، الذي يخدم المجتمع لا بغرض الهدم وخلاص، وأن يكون ولاء الكاتب لقلمه، الذي دفع ثمنه طوال حياته سواء بشراء ما يقع تحت يديه من كتب ومجلات عربية وغربية حتى ولو كان الجوع سيكون مصيره، فهو لا يكتب لمجرد رص الكلمات بجوار بعضها ولكنه يكتب من أجل معلومة فكرة تجعل عقل القارئ وذهنه حاضرًا لا مغيبًا.

وكانت النتيجة أن وافق الزملاء على تقديم الفكرة ضمن مشروع التخرج، خاصة أن الفيلم إن كُتب له الظهور سيكون ضمن ضيوفه يسري فودة وبلال فضل وسعد هجرس، وآخرون ممن أراهم «محظوظين» لمعرفتهم بمحمود عوض.

وقبل نهاية عام 2010، كنت وصديق دفعتي، محمود إبراهيم، في محطة مترو أنور السادات، وخرجنا للجلوس أمام مجمع التحرير، حيث قررنا البدء في الاتصال بالشخصيات، التي يمكن أن تظهر في فيلمنا، وبدأنا خطوتنا الأولى مع يسري فودة، وبعد محاولة والثانية، رد على هاتفنا في الثالثة، مبديًا ترحيبه بالفكرة واستعداده للاشتراك معنا، وكذلك وافق الراحل سعد هجرس، وانتظرنا ردًّا من بلال فضل بعدما تركنا له رسالة صوتية، وذهب كل منا إلى بيته.. و.. و.. و.. واندلعت ثورة 25 يناير.

بعد ثورة 25 يناير، بدأ الفصل الدراسي الثاني، وتغير تفكير كلية الإعلام، كما تغير تفكير كثيرين في مصر، حيث الانبهار والتقدير لما شاهده خلال أحداث الـ18 يومًا في ميدان التحرير، لتصبح الثورة مشروع التخرج، الذي تريد دفعة 2011 تقديمه قبل ترك جامعة القاهرة.

وكان قرار الإدارة في كلية الإعلام بأن ينضم الطلاب لأول مرة في تاريخ الكلية ضمن فريق عمل واحد قوامه نحو 65 طالبًا، لتقديم فيلم وثائقي عن الثورة، وكنت واحدًا منهم.

وهذا معناه أن تقديم سيرة محمود عوض وكل ما يتعلق بحياته في فيلم وثائقي لن يُكتب له النور، ولن نستطيع الحديث عن ميلاده في طلخا بمحافظة الدقهلية، وعلاقته بالراحلين مصطفى وعلي أمين، وكيف خشيت إسرائيل من كتب له مثل «ممنوع من التداول» و«أفكار إسرائيلية»، معتقدة أنها توزع ضمن التوجيه المعنوي للجيش المصري.

وقدمنا الفيلم الوثائقي عن الثورة وتخرجت «دفعة التغيير» أو «دفعة الثورة» في كلية الإعلام، كما كان البعض يحب أن يسميها، وكان بداخلي حزن أنني قصرت في تقديم سيرة محمود عوض، وقررت من وقتها إذا عملت في الصحافة ألتزم بقدر الإمكان بمدرسته الصحفية «المشاغبة المتمردة»، التي تحترم القارئ.

أذكر أنني في ذكرى ميلاده السبعين كتبت

موضوعًا عنه في «المصري اليوم» وكانت السعادة تغمرني، واعتبرت وقتها أنني أقدم الجميل للرجل، الذي لم أقابله في حياتي لسوء حظي، لكنني أشعر أن كل خطوة في عملي له بصمة حاضرة أتعلم منها كثيرًا.

وفي كل مرة أمر في طريقي على كوبري الجامعة، أجد نفسي أقرأ له الفاتحة وأتمنى لو كان موجودًا في شقته كي أصعد له لأتعرف على رأيه فيما كتبت، أو الحديث معه عن أحوال بلادنا، وأسأله ما رأيك: الدستور أولًا أم الانتخابات أولًا؟ ومن ستنتخب؟ وكيف ترد على الراضين عن ضرب غزة؟ وغيرها من الأمور، التي لا يعزيك فيها إلا كتبه، التي لا يصدر منها إلا النادر، بينما الباقي أنت وحظك إن وجدته في سور الأزبكية.

كنت أتمنى أن يكون هناك مدرج في كلية الإعلام بجامعة القاهرة يحمل اسم محمود عوض أو أن تكون له جمعية تجمع محبيه وتعيد إصدار أعماله كي لا نحرم الأجيال الجديدة من تفكير يعتمد على المنطق والأسلوب الرشيق في الكتابة والدقة في تقديم المعلومة إرضاءً للضمير.

وعلى أمل أن يجد محبو محمود عوض جمعية تجمعهم، ويتبناها اثنان ممن يعشقون كتاباته، يسري فودة وبلال فضل، وكل من كان صديقًا لـ«عندليب الصحافة» وجهًا لوجه أو على الورق، وأضع تحت تصرفهمصفحة باسمه على موقع «فيس بوك» كنت قد دشنتها في محاولة مني لتخليد ذكرى الراحل

في النهاية إذا لم تكن قادرًا على قراءة كتب محمود عوض فلا تبخل عليه بالفاتحة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية