x

خالد البرماوي صراع بقاء الصحف المطبوعة على قيد الحياة! خالد البرماوي الأربعاء 30-03-2016 21:23


لو أن مواطنًا عاديًا تابع عشرات التقارير الإخبارية التي انتشرت على الإنترنت وسوشيال ميديا والقنوات التليفزيونية، ورصدت كل ما دار في لقاء الرئيس مع المثقفين يوم 22 مارس الماضي.
فهل بعد أن تعرض لهذه الوجبة الإعلامية المكثفة التي بدأت في التحرك بعد انتهاء اللقاء بدقائق يمكن أن يلفت نظره، صباح اليوم التالي، وبعد 16 ساعة تقريبا من الحدث مانشيتات لدى «فرشة» بائع الصحف المطبوعة، تقول: الرئيس للمثقفين: «أنا في رقبتي 90 مليون».
أو: «أنا ابن مصر قبل أن أكون الرئيس».
أو: «أنا اللي في وش المدفع».
هل هذه العناوين تجعلك تغامر بإخراج جنيهين من جيبك؟
(فيه كلام إنهم هيبقوا 3 جنيهات قريبا!).
هل منطقي أن تدفع من أموالك على محتوى رأيته من قبل، ومجانًا، وبصور أكثر تنوعًا وجذبًا؟
حسنا، البعض يسير عكس المنطق، ويفعل ذلك، ولكن بحكم العادة وليس الاحتياج. وهذا «البعض» انخفض بنسبة 50% على أقل تقدير في السنوات الخمس الماضية.

*****
طيب، انسَ هذا السيناريو، وتخيل الآتي:
أمامك صحيفة مطبوعة بإخراج مبهر، واضح أن هناك جهدا كبيرا بذل فيه، مع الكثير من العناوين المتنوعة والجذابة، مثل: هل كان يعرف الرئيس بقضية «طفل تي شيرت وطن بلا تعذيب»؟ بصورة للطفل تحتل ربع الصفحة الأولى.
طرح هذا السؤال يحمل دلالات صحفية وسياسية مهمة، تقود إلى قصة جذابة و«بياعة» بلغة السوق، وكلتا الإجابتين تعزز ذلك، سواء في حالة ما إذا كان الرئيس يعرف، أو إذا كان لا يعرف!
ومنطق هذا الطرح لأنه كما نعرف عُرض بين ثنايا حوار الرئيس قضية حبس الطفل محمود محمد احتياطيا لعامين دون أي تهمة معلنة، ويمكن أن تمثل هذه القصة المثيرة والغريبة جدا مدخلا يرصد ويحلل من خلاله ما جاء في لقاء الرئيس، وغالبا أكثر «جمهور الصحف» لا يعرف تفاصيل هذه القصة، ولا الحقيقة من الأكاذيب فيها.
هذا نموذج سريع لعناوين وقصص يمكن نسجها من جنبات المشهد القديم الذي استهلك من قبل، ليتم إحياؤه وتسليط الضوء على زوايا صغيرة فيه، وتعزيزه بالمزيد من التحليل والتحقيق والخلفيات.
كان يمكن أيضا أن تتم تغطية حوار المثقفين بإخراج مبهر مع استخدام صحافة البيانات بصورة أساسية، مع طرح 10 أسئلة على 10 مثقفين حضروا اللقاء، حول أهم جملة لفتت نظرهم، أو أكثر كلمة تكررت، وأكثر المثقفين تحدثا أو تأييدا أو معارضا، هل يعتقدون أن الرئيس ليبرالي، أي مدرسة ثقافية يميل لها الرئيس... إلخ.

*****
لا يستطيع إلا صاحب بلورة سحرية أو مخترع لآلة الزمن أن يعيد للصحافة المطبوعة مجدها، ولكن يمكن بالكثير من الجهد والإبداع أن نبقيها على قيد الحياة لبعض الوقت، أو على الأقل ألا نعجل بمصيرها المحتوم بأفعالنا، أو بالأحرى عدميتها.

كيف السبيل؟
ليس هناك وصفة سريعة التحضير، يمكنها أن تناسب الجميع، فكل دولة وكل صحيفة لديها جينات مختلفة حتى عن شقيقتها في نفس المؤسسة، ولكن يمكن أن نتبع مجموعة من الخطوات والحلول الاسترشادية التي نجحت مع العديد من المؤسسات.
وأمامنا تجارب من كل دول العالم، ومنها دول ظروفها أصعب منا بكثير، هذه التجارب تدلل على أن الصحافة المطبوعة «المحترفة» مازالت قادرة على أن تحقق ربحية معقولة، وتبقى مؤشرات انخفاض توزيعها في الحدود الآمنة من 5% إلى 8%، في مصر من أكثر من الضعف!.
وهناك صحف استطاعت أن تكسر القاعدة، وتزيد من توزيعها الورقي وديجتال في نفس الوقت، حدث هذا في فينزويلا واليابان والهند وسلوفينا وهولندا والنرويج، وفعلتها نيويورك تايمز بصورة مبهرة عام 2012.

*****
البداية يجب أن تكون مع المحتوى، فهو الملك ولب الصناعة كلها، وإذا صلح، صلح حال الصحافة، وإذا فسد فلن يكون هناك أي معنى أو فائدة من التطوير.
الصحفي/ المحرر والمحتوى وجهان لعملة واحدة، وهما مفتاح العقدة والحل.
وعلى المؤسسات التي تريد أن تبقى وتنجح أن تنفق بجدية وبحكمة على تطوير وتحديث أهم عنصر في العمل الصحفي، وهو الصحفي نفسه.

*****
كل من يشتغل بالصحافة يعرف بالتأكيد أن المنتج الخبري يدور حول إجابات الأسئلة الستة المعروفين اختصارا 5W+H (ماذا + من + متى + أين + وعلى مسافة منهم تأتي كيف + ولماذا).

مقال برماوي


في السابق كانت الصحف المطبوعة اليومية معنية أكثر بالأسئلة الأربعة الأولى: لأنها تمثل حقيقة أي واقعة، وأهم العناصر التي يبحث عنه الجمهور، لأن الطبيعي أن تعرف أولا ما حدث، ثم تفهم لاحقًا، وهذا دور سؤالي: «كيف + لماذا» المعنيان أكثر بالصحافة التقريرية أو التحليلية وصحافة التحقيقات.
الآن على الصحف المطبوعة أن تتوقف عن ملاحقة الأسئلة الأربعة الأولى، لقد حسم الأمر، وعليها ترك مساحة الخبر بشكله الكلاسيكي راضية أو مجبرة، لأنها مهما حاولت الجري بمنتهى السرعة ستكون متأخرة على الأقل بـ6 ساعات عن مواقع الإنترنت والتليفزيون.
يجب أن تعي الصحف المطبوعة والقائمون على تحريرها وإدارتها أن المنتج الخبري بالنسبة لهم فقد صلاحيته وانتهى دوره معهم، إلا إذا كان انفرادًا أو سبقًا.
وعليها أن تتبنى سياسة معاكسة تمامًا لما كانت تسير عليه، لتصبح أولوياتها في اتجاه «كيف ولماذا؟»، وتضيف لهما: ماذا يعنى ذلك؟ وتأثير ذلك؟ وما المتوقع أن يحدث لاحقا... إلخ.

*****
هناك أيضا مساحة جيدة يجب على الصحف المطبوعة أن تستغلها في ظل نقص المحتوى المؤكد، والقصص العميقة التي تشرح وتحلل الأحداث.
فمع الانتشار الكبير لمواقع الإنترنت وصفحات سوشيال الكثيرة ظهرت حالة من التزاحم والعشوائية، وظهرت الكثير من المعلومات والآراء المتضاربة والمتناحرة، وأصبحت المصداقية عملة نادرة، والحقيقة شبه غائبة وتحتاج من (يمحص ويفحص ويلخص).
هنا يمكن أن تتدخل الصحافة المطبوعة الملعب وتتسلل من خلف الوسائط الأخرى، بقصة متكاملة وبإيقاع سريع، فتستدعى كافة الأطراف، وتنتخب خبراء متخصصون أصحاب علم أو معلومة، فتنصر للمهنية والموضوعية، وتفصل بشكل واضح بين الخبر والرأي، وتستبعد المصادر المجهلة، فتخلق لنفسها ميزة تنافسية وقيمة مضافة ليست موجودة في الوسائط الأخرى.
والمفترض أن ترك مساحة الخبر بكل ما فيه من تسرع ولهث يعطى للصحف المطبوعة وقتا أطول لكي تعمل على القصص التي تحتاج جهدا كبيرا ومنظمًا.
حدث هذا في السويد، عندما بدأت صحيفة سفينسكا اليومية في تجربة تحويل آلية إصدارها اليومي ليكون أقرب للنموذج» المجلاتي أو الصحف الأسبوعية، لتعمل على القصص الصحفية قبلها بفترة، وأجبرت المحررين لديها على تسليم قصصهم قبل يوم أو يومين من النشر، لكي تعمل عليها بصريًا، وتقوم بتطويرها وتعميقها.
وفي النرويج أيضا بدأت تجربة مشابهة بادرت بها مجموعة «شبستيد» العريقة، عمرها أكثر من قرنين من الزمان، كان منطقهم في التغيير، ترك مساحة الخبر نهائيا «فبدلا من نقل أخبار الأمس للناس، يتم طرح موضوعات الغد» هكذا كان شعارهم.
وهناك عشرات التجارب التي بدأت قبل الطامة بفترة، بعضها نجح وبعضها تعثر ومازال يحاول، لكن على الأقل كانت لديهم شجاعة التجربة، لضمان الاستمرار لأطول وقت ممكن، مع الاستعداد لمصير محتوم لا مفر منه.

*****
لا أريد أن أكون من الذين يقعون في خطيئة التعميم، لذا سأقول إن الكثير من الصحف اليومية المصرية للأسف لا تعي حقيقة ما حدث من حولها من تغيير.
فهل يعقل أن تنشر بعض الصحف مقالات رأي كلها سياسية، وأغلبها يحمل نفس الفكرة ولنفس التيار الفكري.. أين التنوع؟ ثم هل لا يشغل الناس إلا السياسة، وخناقات توك شو، وسوشيال ميديا؟
أين مقالات الرأي والأعمدة المتميزة المنوعة، والتي لا تتحدث وكأنها خرجت من قالب واحد؟
أين التقارير المتميزة، والتحليلات العميقة التي تتعرض للملفات الساخنة في الفن، والرياضة، والجريمة، والاقتصاد، والغذاء، والصحة، والتكنولوجيا، والسيارات، والوظائف، والتعليم، والعلاقات، والتربية، والأدب.
أين القصص الفريدة والمحتوى المحلي والخدمي والترفيهي والخارجي والمنوع؟
هل كل محافظات مصر ليس فيها إلا أخبار المحافظ ورؤساء المدن ومديريات الآمن؟
ثم ما هذا الكم من التشابه والتوأمة فيما ينشر، وما لا ينشر؟ أين «الندرة» و«التفرد» الذي يميز صحيفة عن أخرى؟
فإذا كانت كل الصحف وجبات مشابهة، وتعتمد على نفس أطنان البيانات الصحفية المعلبة، بل تعالجها أحيانا بنفس الطريقة وبنفس المانشيت.. حدث بالفعل.
إذا كان هذا يحدث، فكيف تتوقع أن يستمر الناس في شراء بضاعتهم؟
هل يعقل أن يكون في مصر 12 صحيفة يومية، كلها- ماعدا واحدة فقط- وجبتها الرئيسية أخبار في زمن تقلصت فيه مساحة الاهتمام بالصحف الإخبارية اليومية؟
الجمهور وأي جمهور ينجذب للسلعة التي تحمل صفة الندرة، وهذا ما يحقق المبيعات لأي سلعة، وبالتالي يتحقق الأرباح.
مفهوم الندرة هو الذي يؤسس للقيمة وللسعر أيضا، وكل هذا مرتبط بالتكلفة، وعلى قدر ما تستثمر المؤسسات الصحفية في المحتوى الجيد، ولمن يقوم بجلبه وتطويره، أكرر من يقوم بجلبه وتطويره، على قدر ما تحصل في النهاية على مردود إيجابي في التوزيع والانتشار والتأثير، المعادلة بسيطة وليست اختراعا. كما يقول تقرير مؤسسة «أنوفيشن ميديا لعام 2013».

*****
بصراحة، وبشكل شخصي، لا يعنيني كثيرا أن تستمر الصحف المطبوعة أو تختفي، ما أنا مهتم به هو كيف تختفي ومتى؟ وهذا لأسباب نفعية بحتة، لأنها ستؤثر بصورة مباشرة على مستقبل الصحافة وربحيتها من زاويتين:
الأولى: أن يحدث الانتقال المتوقع في الصناعة بشكل صحي وبخطة زمنية مدروسة تضمن عملية تلقيح سليمة بين الصحافة المطبوعة وديجتال ميديا، قوام ذلك طبعا التدريب وتطوير الموارد البشرية لكي تكون قادرة على عبور المرحلة الانتقالية بنجاح وبنموذج ربحي يمهد لدخول الصناعة لعصر Paid Content المحتوى المدفوع، والبدء في تبنى جدارات Paywalls الدفع الذكية.
الثاني: أن في الأصل يجب أن يكون لديك مجتمع يقرأ، ليكون منطقيا أن تحاول إقناعه أن ينقل حاجته المعرفية الورقية للديجتال، ثم تقنعه أن يدفع مقابل هذا الاحتياج، أما إذا كان لا يقرأ، فبالتالي لن يهتم ولن يدفع لا للورقي ولا للديجتال.
لهذا يجب أن نسعى جميعا للمد في عمر الصحافة المطبوعة، ولو قليلًا، لكي تتاح للقائمين على الصناعة تبنى مبادرات وأفكار والخوض في تجارب وابتكارات تضمن الاستدامة والربحية والاستقلالية لوسائل الإعلام في المستقبل.
المقال القادم يحاول أن يبحث في أدوار تقنيات الطباعة والتوزيع والإعلانات والإخراج الصحفي لمساعدة الصحف المطبوعة في صراع البقاء والفناء.

للتواصل مع الكاتب:

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية