الرئيس هنا ليس بالضرورة أن يكون رئيس الجمهورية، فقد يكون رئيس مجلس الشعب، أو رئيس مجلس الوزراء، أو الوزراء أنفسهم، أو رئيس هيئة أو مؤسسة، باختصار السؤال يتسع لكل متخذي القرار.. بل يمكن مطّه ليصل لكل مسؤول في القطاعين العام والخاص.. هل يقرأ هؤلاء الصحف الورقية؟
واقعيًا، نعرف أن الكثير من المسؤولين يقرأون بعض الصحف، بحكم العادة أو السن، وعدم القدرة على مجاراة أدوات العصر، وغالبًا هم يتصفحون أكثر منهم يقرأون، وربما يتطلعون على المهم من الصحف وما يخصهم فقط عن طريق Newspaper Clipping، التي ترسـل لهم من خلال إحدى خدمات Media Monitoring.
وهذا يقودنا رأسًا لسؤال الحلقة: هل تحرك الصحافة الورقية فيهم ساكنًا؟!
شخصيًا، أعتقد أن التأثير السياسي والشعبي وبالتالي الإعلاني للصحف الورقية يتراجع بقوة، وأصبح رابعًا الآن، بعد القنوات التليفزيونية، والشبكات الاجتماعية، والمواقع الإلكترونية. والدليل، التالي:
*****
قبل أيام قليلة، خرجت تصريحات تليفزيونية حمقاء من وزير العدل، المستشار أحمد الزند، وُصِفت بأنها زلّة لسان- شخصياً أصدق هذا- ولكن مع مسؤول بحجم وزير العدل، لا تمر مثل هذه الزلات بسهولة، فتحركت سوشيال ميديا غاضبة، ونقلت بقوة الصحافة الإلكترونية، ورُدّت القصة مرة أخرى للقنوات التليفزيونية، وأخيرًا، وصل الأمر لمتخذي القرار، وكانت الإقالة.
وبغض النظر عما يقال إن شخصية الرئيس المتدينة ذات النزعة الصوفية، كانت السبب في إقالة الوزير؛ ولكن في كل الأحوال لا يمكن أبدًا أن نفصل الإعلام الإلكتروني والشعبي من مشهد هذه الأزمة، ولا يمكن إلا أن نقر بدورهما في تحريك الأمور بل وصنعها، وفي كشف ورصد فلتات اللسان الكثيرة لهذا الوزير وغيره.
*****
قبل عشرة أشهر من الآن، كان هناك مشهد مشابه لحد التطابق. وزير العدل السابق، المستشار محفوظ صابر، خرج علينا هو الآخر بتصريحات تليفزيونية، أقل ما تُوصف بأنها فاسدة وغير دستورية، بزعم عدم أهلية أبناء الزبال في نيل شرف أن يكونوا قضاة.
وأعتقد أن تصريحات المستشار محفوظ أخطر وأسوأ بكثير من تصريحات المستشار الزند، لأنها خرجت عن اقتناع ووعي كاملين؛ أما الزند فخرجت منه انفعالية ومرتبكة، كإفراز عشوائي، ناجم عن «قوة مفرطة»، كما وصفها الزميل مجدي الجلاد.
ولو تأملت القضايا التي أثارت الرأي العام في العام الماضي والذي سبقه، حتى خمسة أعوام مضت، ستعي جيدًا أي قوة وصلت لها الصحافة التليفزيونية، تسبق أو يسبقها ديجيتال ميديا، بشقيها الشعبي والاحترافي.
وما زلنا نتذكر رد الفعل الغاضب عقب اللقاء التليفزيوني الذي قامت به قناة أون تي في مع الفريق أحمد شفيق، عندما كان رئيسًا لمجلس الوزراء، وكان هذا بعد شهر تقريبًا من توليه المسؤولية، لتتم إقالته رسميًا بعد الحوار الذي أثار الرأي العام ضده، خاصة على مستوى الفضاء الإلكتروني، ليكون بذلك أول- وربما آخر- رئيس وزراء في العالم تتم إقالته عبر بيان نشر على صفحة على فيس بوك، وفي هذا إشارة لا يمكن إغفال دلالتها!
ولو تذكرنا القضايا التي شغلت الرأي العام في الأشهر الماضية، لوجدنا تأثير الصحف الورقية عليها كـ«ضيف شرف»، مجرد ناقل للصخب، وليس مطلقه ولا مؤثرًا في مساره؛ فلم نسمع من فترة طويلة عن حوار أو خبر أو تحقيق صحفي نشر في جريدة مطبوعة وأثار الرأي العام، وتبادل الناس قصاصات الصحف المطبوعة فيما بينهم، ودفع إدارة الصحيفة لطبع المزيد من النسخ، كما كنا نرى حتى 7 سنوات فقط.
السيناريو المعتاد الآن هو أن تنشر الصحف الورقية وتعتمد على زبون «العادة»، وإذا كان هناك أمر طازج أو يسترعي الاهتمام، تتلقفه الوسائط الرقمية، أو شاشات الفضائيات، لينتقل لمساحة الانتشار الواسعة، ومن ثم التأثير الشعبي والسياسي.
مثال حديث: عندما قام الكاتب أحمد ناجي بنشر جزء من روايته في صحيفة أخبار الأدب الورقية، ظل الأمر بضعة أيام دون أن يلتفت له أحد، حتى وصل للشبكات الاجتماعية، ومنها تحركت الأمور كما تابعنا.
*****
في فبراير 2014، خرجت علينا صحيفة «السياسة الكويتية» بأول حوار مع المشير عبدالفتاح السيسي- عندما كان وقتها وزيرًا للدفاع- ليعلن من خلال هذه الصحيفة لأول مرة بشكل شبه رسمي عن نيته للترشح، لتأخذ الصحيفة الخليجية السبق الأهم من كل وسائل الإعلام المحلية، حدث بالفعل.
وبعد أن تولى حكم مصر، لم يقم الرئيس بإجراء أي حوار صحفي «حقيقي» مع أي صحيفة مصرية، وكلنا يعرف أن الحوارات التي نشرت قبل أشهر في بعض الصحف القومية، كانت عبارة عن أسئلة سابقة التجهيز، مع صور لزوم الحبكة.. لكنْ حوار حقيقي مع أي صحيفة ورقية مصرية، لم يحدث.
وعلى ما أتذكر، لم يقم عبدالفتاح السيسي، عندما كان مرشحًا رئاسيًا، بإجراء أي حوار مع أي صحيفة خاصة، ليس تجاهلًا للإعلام الخاص–على ما يبدو- لأنه قام بذلك مع القنوات التليفزيونية الخاصة، ولكن ربما لأنه لم ير أهمية للصحف وقتها، في وجود بدائل تحل محلها وأكثر، ولا يمكن أن نعتبر هذا اعتباطًا أو محض صدفة، خاصة مع رئيس يعي ويهتم جيدًا بدور الإعلام، ربما أكثر مما يجب!
وقبل خمسة أشهر، خرج الرئيس السيسي غاضبًا من الإعلام، وكانت كل ملاحظاته على وسائل إعلام تليفزيونية أو إلكترونية، ويبدو أنه لم ير في الصحف الورقية ما يسترعي الاهتمام، اللهم إلا بعض التأثير من مقال هنا أو هناك، وحتى هذه أيضا تأخذ زخمها من انتشارها على الإنترنت.
في الشهر الماضي، قام الرئيس بمداخلتين هاتفيتين لبرنامجين على قناتين خاصتين، هذا أيضًا مؤشر واضح لم يشاهده متخذ القرار في مصر، ولم يعتقد أن جمهوره المستهدف يشاهده.
ويقال إن هناك أربعة تقارير إعلامية يومية على مكتب الرئيس، أغلبها متابعات ورصد لما يدور على سوشيال ميديا والصحافة الإلكترونية والقنوات الفضائية، والقليل منها من مقالات الرأي، وفقط.
*****
كلنا يعرف أن أغلب المشروعات الإعلامية تحمل بين نوايا القائمين عليها أحد هدفين، أو كليهما في بعض الحالات؛ إما أهداف سياسية، وهي الغالبة الآن، وقبل الآن بزمان، أو أهداف اقتصادية، وهي حالات قد تكون نادرة، وندرتها هذه ربما تكون السبب الرئيسي لسوء وعشوائية المشهد الإعلامي، وليس هذا مجال الحديث فيه.
ختامًا، ما أريد أن أرصده الآن- والمجال مفتوح هنا للنقاش والنقد- أن هناك تراجعًا كبيرًا لتأثير الصحف الورقية على دوائر صُنع القرار، وكذلك على السواد الأعظم من الناس، ومع تضاؤل التأثير السياسي وضعف النموذج الاقتصادي؛ باتت عجلة النهاية تدور على الصحافة المطبوعة بصورة أسرع مما كنا نتوقع، إلا إذا... ولهذا حديث آخر.
للتواصل مع الكاتب: