كانت أول مرة أتواصل فيها مع الأستاذ هيكل في مثل هذه الأيام من عام 2011، بعد تنحى مبارك، وقبيل استفتاء 19 مارس الأسود، ذهبت لمكتبه بفكرة تنظيم لقاء «اونلاين»، يجمعه بالشباب الذين خرجوا في ثورة 25 يناير، عن طريق حوار مفتوح على «يوتيوب» وموقع مصراوي، الذي كنت أتولى رئاسة تحريره وقتها، وكانت المفاجأة، أنه أعتذر.
تذكرت يومها عبارته الشهيرة، التي أوردها في كتابه «بين الصحافة والسياسية»، حين قال: «الكلمة المكهربة على الكومبيوتر فوارة، وهي مثل كل فوران متلاشية»، تفهمت سبب الرفض، لكن لم أقبل به، فمثل هذه الفرص لا تتكرر في العمر مرتين.
فطلبت من السيدة البشوشة جيهان مديرة مكتبه، أن تعطيني فرصة لأقابله شخصيًا وأعرض عليه الفكرة تفصيلًا؛ ويبدو أنها تعاطفت معي، فكان اللقاء، وشرعت بمجرد أن رأيته في المحايلات والمحاولات المستميتة؛ حتى اقتنع أخيرًا بالفكرة، بعد أن وعدته أن يذاع في نفس الوقت على مختلف القنوات والصحف المصرية، كرسالة منه للشباب جميعًا، وليس فقط شباب الإنترنت. وهو ما حدث بالفعل.
*****
من المفارقات، أنه -لاحقا-أخبرني أن من اقنعه حقا، وجعله يثق في، وفى الميديا التي أمثلها، ليس الحاحي، فمثله لا يخضع للضغوط، ولكن استشارته لأحفاده، كما قال لي:«هم اللي عارفين في الإنترنت وفيس بوك، والحاجات دي». فشكرا جزيلا لهم.
ونُظم الحوار بصورة رائعة، وأداره -متطوعًا- الفنان عمرو واكد، وكانت هذه أول مرة يتحدث فيها الأستاذ هيكل، بعد أن استفاقت مصر من سكرة نجاح الثورة على النتائج المفاجئة لاستفتاء مارس. ورغم أن عمر الثورة وقتها شهرين فقط، إلا أنه بدء ينبهنا للعواقب والأخطاء التي يمكن أن نقع فيها، وكأن المستقبل كتابًا مفتوحًا أمامه، وهو يقرأ منه ويرسل لنا إشارات تحذير؛ ولكن كلنا، كلنا وقعنا في الفخ، بصورة تدعو للدهشة والريبة.
*****
ولأن الطمع في حضرة الأستاذ مشروع، فطلبت منه أن أرتب لقاءات أخرى شخصية تجمعه بمجموعة من الشباب المتعطش للتغيير السريع، والحالم بوطن تملأ جنباته الحرية والكرامة والعدالة، دون أي طموحات سياسية لهم، مع مشروعيتها طبعا، لهم ولغيرهم.
وجلسنا معه بالفعل مرات عديدة، واستمرت هذه اللقاءات حتى مطلع 2013، وكان ضمن الحضور الأساتذة الأفاضل، وائل غنيم، ومصطفي النجار، عمرو سلامة، ومحمد دياب، ووائل خليل، وكاتب هذه السطور، وبعض الأصدقاء الآخرين انضموا لاحقا.
وكان أن توسعت هذه اللقاءات الشبابية، وسرعان ما أصبحت عادة، فجمع الأستاذ حوله في لقاءات متعددة الكثير من الشباب من كافة التيارات والألوان السياسية، وكم من مرة أشار لهذه اللقاءات في حلقاته التليفزيونية مع الأستاذة لميس الحديدي.
وكانت دائمًا حاسة الصحفي هي الغالبة في كل اللقاءات، فتراه يبحث ويستفسر ويسأل ويدقق، رغبًا في أن يعرف، ويعرف، ويعرف؛ وكأننا أمام صحفي في مقتبل عمره، يرغب في الاشتباك والحوار.
كان هدفنا في المجمل، أن نتعرف على رأيه ورؤيته فيما يحدث، من واقع تجاربه، ومن واقع أحداث عظيمة شهدها بل وشارك في صنعها، عبر قرنا إلا قليلا من زمان، ومن واقع بصيرته النافذة، ومن واقع وطنيته وتجرده المطلق في هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ مصر؛ وكان هدفنا الأهم، أن نبصر على يده الحقيقة، وسط حاضر ملتبس، ومستقبل مبهم.
*****
ماذا قال هيكل؟
هذه مجموعة رسائل سمعتها منه، ودونتها وقتها، وهي ليست فقط لنا، ولكن لكل شباب مصر:
«يجب أن تتعرفوا على أنفسكم أولًا، من أنتم، وماذا تريدون، وأين أنتم الآن، وأي مدى تطمحون له؟ وما هي أدواتكم؟ قد يكون طموحكم أن تكون مصر مثل سويسرا، أو تركيا، أو فقط بتغير الوضع قليلا عما هو عليه؛ المهم أن يكون لديكم مشروع، حتى ولو ملامح».
·«لا يجب أن يكون هدفكم إزاحة شيء، أجلعوا هدفكم بناء شيء ما، أو التأسيس لشيء ما، فكروا فيه، وخططوا له، خذوا وقتكم حتى تصلوا للحقيقة، أكثر ما اخشاه الآن هو التعجل والطلسئة».
·«الثورات قد تأتي بصورة مفاجأة، لكن صنع المستقبل لا يحدث بالانقضاض، ولا بالقفز على الحقائق، أو الهروب منها».
·«هناك ثورات تخلف من ورائها فكرة، وهناك فكرة تخلف من ورائها ثورة».
·«لا تضعوا أنفسكم أبدًا في موقع الدفاع عن النفس، هذا يعنى أنكم خسرتم نصف المعركة».
·«يجب أن نعترف أن لدينا مصيبة نخبة، وخيانة من أكثر المثقفين، فأسوأ ما فعله مبارك أنه جرف المناخ السياسي تمامًا، وقد نحتاج لسنوات طويلة، لكي يكون هناك مناخ صالح للعمل السياسي».
·«مقتضى الدين الأيمان، ومقتضى المعرفة كشف الحقيقة».
·«لا تكونوا مثل من صعد للمريخ، وبعد أن وصل، طلب كيلو كباب».
وفي مواضع أخرى قال:
·«ما نحتاجه الآن هو أن نطل على الحقيقة كاملًا، ونتصرف بمقتضاها، نستطيع أن نخدع أنفسنا، ونقول عملنا وعملنا، وهذا كافي؛ لكن لا يجوز أن نكسر كل الأبواب، ثم نقف ونخشى المواجهة».
·«قبل الحديث عن الدستور أليس منطقيا أن نجلس لنرى من نحن؟ الدستور يجمع المشترك بين ناس تعيش على نفس الأرض، والدستور يحدد من هم، وماذا يريدون، وماهي ثقافتهم وهويتهم، أساس أي دستور العيش المشترك، وتأصيل مبدأ المواطنة، وليس هناك أقلية أو أكثرية في الدساتير».
·«القوات المسلحة في أي بلد في الدنيا هي ضامن الشرعية والدستور، وهنا أقول إن البوليس يضمن القانون، لكن الجيش يضمن الدستور».
·«الجيش لا يحكم، ولا ينبغي له ذلك، الجيش مستأمن على الشرعية والثورة حتى تتمكن القوى الوطنية من أن تفكر في المستقبل، وتضع تصور له، وتصنع دستورا يترتب عليه قوانين ملزمة فيما بعد».
·«مبارك رحل، والبلد لم يعد فيها شيئا يؤخذ كغنائم، خلاص يعني تلاتين سنة يا راجل وأنت بتتكلم على حاجة تترية وهمجية».
·«هتقولوا أعمل مجلس نواب، وبعده مجلس شورى، وبعده رئيس، ماشي، وهاتسلمه الصندوق الاسود اللي فيه المصايب كلها، وكله هايحاول يتستر لأنه لا يستطيع أن يواجه، وسوف يصبح هذا بالضرورة جزء من الواقع، لأنه مش عايز يصلحه، وبالتواطؤ هانمشي كلنا في نفس الطريق.. هذا وقت أن نختار طريقًا آخر».
لاحظوا أن هذا كان في عام 2011، وبعض هذه الاقتباسات مصورة فيديو.
*****
لهذا الدرجة، كان أستاذ هيكل حكيمًا وبصيرًا وبنا عليمًا، ولهذا الدرجة كنا، (......... القوس مفتوح.
لو أن لنا أن نعدد الأصوات المخلصة-العاقلة القليلة التي قدمت النصيحة الثاقبة لثورة 25 يناير، لكان الأستاذ هيكل أولها؛ وبشكل شخصي، المهندس نجيب ساويرس أيضا لعب هو الآخر دورا هامًا، بداية من محاولاته لإخراج وائل غنيم من الاعتقال، وليس نهاية باتصالاته وتحذيره لنا، ونحن في طريقنا للحديث مع بعض المسئولين قبل تنحي مبارك بيومين، لينبهنا أن التواصل مع نظام مبارك الآن مضيعة للوقت، وأن الدفة انتقلت كاملًا في يد المجلس العسكري، وهو ما تكرر منه في مواضع كثيرة. ربما قريبًا يحين وقت سرد التفاصيل.
*****
طبعا، كصحفي لم أستطع أن أوقف جماح فضولي في حضرة الأستاذ هيكل، كنز المعلومات، كاتم أسرار تاريخ مصر لـ 50 عامًا على الأقل، فخرجت مرات غير قليلة عن السياق، وسألته عن خلافاته مع الأخوين مصطفي وعلي أمين؟ وهل حقا يعتقد أنهما كانا جاسوسيين؟
وسألته عن مبارك، وهل كان فاسدا أم تم إفساده؟
وعن سر هذا العلاقة الوثيقة مع جمال عبدالناصر؟
ومن كان يقصد أستاذ موسي صبري بشخصية «محفوظ عجب» في روايته الشهيرة«دموع صاحبة الجلالة»؟
وغيرها أسئلة كثيرة، قد تبدو ساذجة وفضولية للغاية، لكن كما يقول أستاذ هيكل، لا يوجد سؤال غبي، لكن قد يوحد إجابات غبية؛ ولاحقا سأبوح برده على هذه الأسئلة وغيرها.
رحمة الله على أستاذ هيكل، قد نختلف أو نتفق على سيرته ومسيرته، لكن في النهاية لم يكن شيطانًا، ولا ملاكًا، هو إنسانًا مليئًا بالتجارب والاخفاقات والنجاحات؛ ما يمكن أن نتفق عليه حقا، أنه كان مصريًا مخلصًا.
وكان صحفيًا نزيهًا متفانيًا في خدمة مهنته ورسالتها، وفق لما كان يعتقد أنه الصواب، فقدم نموذجًا محترفًا وراقيًا للصحافة المصرية، فمن ذا الذي يستطيع أن يصل الآن بوسيلة إعلامية عربية لتكون ضمن أقوى 10 في العالم، كما فعل مع جريدة الأهرام؟! لذا سيظل «الأستاذ» نموذجًا عظيمًا شاخصًا أمامنا طويًلا، وعصيًا على التكرار ربما لقرون قادمة. وداعا، يا أعظم صحفي عرفته مصر وأرض العرب.
للتواصل مع الكاتب:
[email protected]