تخيل نفسك بين يدي طبيب، بعد تخرجه من الجامعة انقطعت صلته بالبحث ومعرفة الجديد، فلم يقرأ أحدث الأبحاث المرتبطة بمجاله، ولم يشارك في أي مؤتمر في تخصصه، ولم يطوّر من نفسه، كما تطورت الأمراض والفيروسات من نفسها، ولم يكتشف أن هناك أدوية لها أضرارًا جانبية خطيرة..ولكم أن تتخيلوا تعبيرات الصيدلي عندما يقرأ روشتته الأحفورية!
*****
الصحافة كصناعة أو كمهنة ليست بعيدة أبدًا عن هذا المنطق، منطق التدريب والتطوير وتحديث الأدوات وآليات العمل، كشرط أساسي للاستمرار، وليس من قبيل الرفاهية، أو كميزة إضافية للتباهي.
نحن نتحدث هنا عن ما يجب أن يكون واقعا إلزاميًا، وروتينًا شهريًا، كطوق إنقاذ في صراع البقاء؛ أما الدخول لحلبة المنافسة واحتلال مساحة تميز وريادة، فمرتبط أكثر بمساحة التجربة والإبداع والابتكار، وليس فقط التدريب ومتابعة الجديد.
قل لي كم مؤسسة مصرية أو عربية لديها مدير تدريب، أو مدير إبداع وأفكار؟
في أمريكا، أنفق العام الماضي 70.6 مليار دولار على التدريب بكل مشتملاته، بزيادة 14.2% عن العام الذي سبقه، وكانت تنفق في عام 2012 في حدود 55 مليار دولار.
*****
كلنا يعرف أن أغلب المؤسسات الإعلامية تعاني من مشكلات اقتصادية ومهنية حادة، بعد خمس سنوات من الرواج الإعلامي غير المخطط وغير المستغل. والآن، دخلنا في نفق السنين العجاف، وبدأت الفواتير تسدد دفعة واحدة.
والمفترض أنه في ظل الأزمات التي تعاني منها أي مؤسسة أو حتى فرد، يكون المجال مفتوحا لتجربة شيء جديد مختلف عن النهج –وأصحابه- الذي قادنا لهذه الأزمة، فالحاجة أم الاختراع، كما قالوا.
تخيل مصنعا يستخدم ماكينات عتيقة تستهلك الطاقة الكهربائية بجنون، وتهدر خامات كثيرة، ما يقلل الإنتاجية، وبالتالي يقل العائد على الاستثمار. ألا يكون من باب الإلزام على أي مسؤول في هذا الوقت، أن يشرع في خطة لتقليل التكاليف وتعظيم العائدات، والمحافظة على الأصول بصيانتها وتطويرها لزيادة إنتاجها.
*****
تخيل أيضا مؤسسة تملك 100 محرر صحفي، تم اختيارهم بعناية، ويتم تدريبهم وتأهيلهم بصورة مستمرة على التعامل مع بيئات نشر مختلفة «ورقية، تليفزيونية، وإلكترونية»، وينتجون يوميا 100 قصة، يمكن تقديمها بطرق مختلفة وقنوات متعددة، تضاعف عدد القصص إلى 200 قصة وأكثر، لتحقق 10 مليون مشاهدة يوميًا، ويقبضون مثلا 500 ألف جنيه شهريًا، وينفق عليهم بصورة دورية 10% من مرتباتهم على شكل تدريب وتحديث أدوات.
وعلى الناحية الأخرى، هناك مؤسسة لديها 200 صحفي، غير مدربين، ويعملون بأدوات عتيقة، توقفت بسهم عند عصر «ورق الدشت»، ينتجون يوميًا 200 قصة، في قوالب ثابتة غير قابلة لإعادة الاستخدام والتوزيع عبر قنوات متعددة، ويحققون مليوني مشاهدة يوميا، ويقبضون في الشهر 500 ألف جنيه أيضًا.
من الرابح في هذه المعادلة؟ ومن المتوقع له أن يستمر في هذا السوق الصعب؟
إذن، نحن نتحدث عن نموذج اقتصادي بالأساس، فتوفير الأدوات هنا ليس ترفًا ولا بغددة، والتدريب ليس أمرًا ثانويًا، أو خيارًا تلجأ له المؤسسات المزدهرة والمستقرة، ولكنه قرارًا ملحًا للتطوير، أو على الأقل الحفاظ على قيمة وتنافسية أصول المؤسسات؟ وهل هناك أهم وأقيم من «الأصول البشرية» في أي مؤسسة إعلامية؟!
*****
ضمن أنماط كثيرة انضمت للصحافة في العشر سنوات الماضية، هناك نوعان يحتلان أغلب المشهد الإعلامي الآن، الأول: متمكن من أدوات الصحافة الحديثة، فتراه ناشطًا على الشبكات الاجتماعية والإنترنت، يجيد استخدام أجهزة سمارت فون وتابلت والكاميرات ديجتال، أيضا مختلف التطبيقات؛ ولكنه يعاني من نقص حاد في المعايير المهنية، تنعكس مباشرة على مصداقية المنتج الصحفي، بالإضافة إلى خلط كبير بين مساحة الخبر والرأي الشخصي.
هذا يحتاج لتدريب عاجل، إذا كنا، وإذا كان يريد أن يبقى في صناعة الإعلام.
وهناك نوع آخر، صحفي موهوب، صنايعي إن شئت الدقة، ليس لديه مشكلة كبيرة مع المعايير المهنية، اللهم إلا الخلط بين المعايير المهنية والمعايير الأخلاقية، لكن مشكلته الكبرى في جمود الأدوات، وفي التعامل مع التقنيات الحديثة، بل البعض ينظر لها بازدراء وتعقيد، باعتبارها «هندسة»، وليس جزءًا أصيلا من عملية تطوير المهنة، وتطوره شخصيا، وشرطا أساسيا لبقائه على قيد «الحياة المهنية».
هذا أيضا يحتاج لتدريب عاجل، إذا كنا، وإذا كان يريد أن يبقى في صناعة الإعلام.
*****
كيف تكون البداية؟
هل مستحيل على أي مؤسسة إعلامية، أن تضع خطة بسيطة للتدريب؟ هل مستحيل عليها أن تعين شخصًا واحدًا يكون مسؤولًا عن التدريب والتطوير؟
نحن لا نتحدث هنا عن ميزانية ضخمة، فاستقطاع 5% فقط من ميزانية المؤسسات الإعلامية لصالح التدريب والتطوير ليس أمرًا عسيرًا، ولا معضلا لأي مؤسسة؛ حتى تلك المتعثرة، التدريب هناك سبيلا للنهوض من عثرتها.
هل مستحيل على المؤسسات أن تعمل-على الأقل- لتطويرآليه ملزمة لنقل الخبرات داخليًا، وفقًا لبرنامج محدد، يرصد الاحتياجات التدريبية، ويضع خطة لتلبية هذه الاحتياجات، ويقيس بعدها النتائج والعائد؟
وهل مستحيل على مجلس نقابة الصحفيين، أن يقوم بـ50% من دوره الحقيقي، وهو تدريب وتطوير الصحفيين كما ينص قانون النقابة؟
هل مستحيل عليهم أن يلزموا الصحفيين أن يعملوا لصالح أنفسهم؟ هل مستحيل عليهم أن يستقطعوا 10% فقط من بدل التدريب والتكنولوجيا- المفترض أن يخصص كله-لينفق فعلا في مشروعات التدريب والتكنولوجيا؟!
وهل مستحيل على الصحفي نفسه، المحترف والهاوي، أن يُعلم ويُدرب ويُطور نفسه بنفسه مجانًا بنسبة 90%؟ هل مستحيل عليه أن يستثمر ساعة واحدة يوميًا، لكي يقرأ مقال أو دراسة عن تخصصه، أو يقوم بتحميل أداة تفيده من هنا أو هناك، أو يطلع على فيديو يعلمه مهارة جديدة، أو يشارك شهريًا في واحدة من عشرات المنح التدريبية وورش العمل المنتشرة في كل مكان، وبعضها يتم أونلاين ومجانا، هل مستحيل عليه أن يقوم بذلك؟
هل مستحيل عليه أن يفعل ذلك، لصالح نفسه، وأسرته، مؤسسته، ومهنته، بل ووطنه..
هل يختلف أحد أن تطوير الصحفي، يعود على نفسه وكل الأطراف من حوله بالفائدة المباشرة.
*****
ما الذي تبيعه جوجل، وما الذي تبيعه مايكروسوفت، وما الذي تبيعه آبل، وما الذي يبيعه فيس بوك؟!
أليست هذه هي أكبر شركات على وجه الأرض الآن، لا تنتج إلا المعرفة.
وهو منتج بشري بحت، لذا لا يمكن أن نتعجب عندما نعرف أن هذه الشركات تنفق على البحث والتطوير والتدريب ما يفوق 15% من أرباحها، المعادلة بسيطة، لأن هذه الأصول هي الأقيم بالنسبة لها، ولكي تحافظ عليها، يجب أن تبقيها في حالة تطور وإبداع دائمين، لذا متوسط عدد ساعات التدريب هناك 45 ساعة إجبارية.
تطوروا، وتفكروا، وتدربوا، وتدبروا، لتبدعوا، يرحمكم الله.
للتواصل مع الكاتب
[email protected]