تعددت ظواهر التكفير فى حياتنا المعاصرة، وتخصص فى ذلك بعض مشايخ الفضاء، الطامعين فى الشهرة والسلطة، وحولوا المعركة من الخارج إلى الداخل، من الصهيونية والاحتلال، من فلسطين والعراق إلى مصر قلب الوطن العربى والعالم الإسلامى التى قادت حركات التنوير فى القرنين الأخيرين، فى إطار مخطط التجزئة والتفتيت بداية بالتكفير ونهاية بالاقتتال وسفك الدماء فى العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال وأفغانستان وباكستان.
والتكفير أحد مظاهر التسلط الدينى والعقائدى والمذهبى والطائفى باسم الفرقة الناجية ضد الفرق الضالة الهالكة طبقاً للحديث المروى من القدماء، الذى يشكك فى صحته ابن حزم والعز بن عبدالسلام. لا فرق بين التسلط الدينى والتسلط السياسى. الأول عن طريق التكفير والشق عن قلوب الناس، والثانى عن طريق الأمن والشرطة والتفتيش فى المنازل. الأول يعتمد على القدماء وما استقر فى التراث ووقر فى أذهان الناس وتحول إلى دين شعبى. والثانى عن طريق أجهزة الأمن والاعتقال والتعذيب فى السجون وقوانين الطوارئ والاشتباه والإخلال بالوحدة الوطنية.
والقدماء فرق عديدة. فالاجتهاد أحد مصادر التشريع. والصواب متعدد. ونشأ حوار داخلى بين الاتجاهات الإسلامية المختلفة، فرق كلامية متباينة، مذاهب فقهية متعددة، مدارس فلسفية متعارضة، طرق صوفية متناقضة، مناهج للتفسير متباعدة. وهو أحد مظاهر الثراء فى التراث الإسلامى. يتعايش الجميع فى حضارة واحدة. بها المؤمن والملحد، المسلم والكافر، السنى والشيعى، الأشعرى والمعتزلى والخارجى، الشافعى والحنفى والمالكى والحنبلى، الظاهرى والباطنى، العقلى والقلبى.
كان تكفير القدماء تكفيراً للمعارضة السياسية، المعتزلة والخوارج والشيعة، باسم السلطة الدينية القائمة، الأشاعرة. فكان التكفير الدينى مقدمة للاستبعاد السياسى. فلماذا لا يكون اليوم التحرر الدينى مقدمة للتحرر السياسى؟ لماذا لا يتحرر الإنسان فى الفكر قبل أن يتحرر فى الفعل؟ هذا ما حدث فى بداية الإسلام عندما تم تحرير عقائد الجاهلية فتحرر نظامهم الاجتماعى.
إن من قال لأخيه «أنت كافر» فقد باء بها أحدهما. ويقر القرآن الكريم بتعددية الصواب، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُبِينٍ). وإذا كان فى قولٍ تسعةٌ وتسعون وجهاً من كفر ووجه واحد من الإيمان فإنه يُحمل على الوجه الواحد. ينتهى الرأى الواحد إلى التقليد والجمود وتكرار المحدثين للقدماء، والأواخر للأوائل. وهو ما نعانى منه هذه الأيام فى جامعاتنا ومراكز أبحاثنا ورسائلنا العلمية. فالزمان متغير، والعصر يتبدل، وكذلك الفكر والرأى والمنظور. لا يمكن السير بساق واحدة، ولا رؤية العالم بعين واحدة، ولا التنفس برئة واحدة.
شرط التقدم العلمى هو توالى الافتراضات، والانتقال من افتراض لآخر. وكل افتراض ينطبق على دائرة فى الطبيعة. وكلما اتسعت الدوائر اتسعت الافتراضات. لا يستبعد افتراض افتراضاً آخر بل يضمه. فالعلم دوائر متداخلة وكذلك الدين سواء بالنسبة للرؤية أو للجمهور، علماء ومؤمنين. يقوم العلم والدين معاً على الضم وليس الاستبعاد، الحوار وليس التكفير وإلا وقع الذهن البشرى فى التكرار والتقليد والجمود، بل إن الوحى نفسه تطور من نبوة إلى نبوة، وتوالى الأنبياء طبقاً لظروف كل عصر، والغاية واحدة، تحرر الفكر البشرى من الأوهام، بل إن الشرائع تتغير فى حياة آخر الأنبياء كما يدل على ذلك الناسخ والمنسوخ بتغير الواقع وتقدم الزمان.
وإن لم يحدث التجديد والتطوير والتحديث والاجتهاد من الداخل فإن البعض يترك القديم كله ويتجه إلى الجديد، يترك الموروث ويتبنى الوافد. أسهل عليه، وأثبت جدارته فى تقدم الفكر الغربى. يتسم بالعقلانية وحرية الفكر والاعتماد على نتائج العلم والبرهان. يبدع ويجدد وينقد. يرفض السلطتين الدينية والسياسية، الكنيسة والإقطاع والملكية. ويقيم حياته على حرية الفكر والمواطنة. وأصبح نموذجاً للحداثة عند كل الشعوب، وفى فجر النهضة العربية منذ قرنين من الزمان، ثم انتكس فى منتصف القرن العشرين. ومعه انتكس الواقع العربى وارتد إلى ما قبله فى العصر العثمانى، التسلط السياسى والدينى. وانقسم الوعى العربى إلى قسمين: أصولى يدافع عن القديم ويتشبث به ويجد فيه خلاصه، فلا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، وحدثى يدافع عن الجديد وينقطع عن القديم، يبدأ بما بدأ به الآخرون. ويقع الخصام ثم العداء وربما الاقتتال بين الطرفين. وتضيع الوحدة الوطنية فى الثقافة والسياسة لصالح التكفير الدينى والتخوين السياسى.
إن الأسهل على التكفيريين قبول العلمانيين من الإسلام المستنير، إذ يسهل إخراج العلمانيين بجرة قلم واحدة؛ أنهم لا ينطلقون من الإسلام ولا يهدفون إلى عزته. وإنه فى صالح العلمانيين أيضاً تكفير مشايخ الفضاء للإسلام العقلانى المستنير باعتبارهم منافسين لهم فى الاستنارة ومتميزين عليهم بالارتباط القديم. فالإسلام المستنير مكفر علناً من مشايخ الفضاء وسراً من أفندية الثقافة. ومن الأصعب على التكفير الدينى استبعاد الإسلام المستنير لأنه يقوم على نفس الأرضية، الإسلام، ويدافع عن تعددية الرأى ويرفض احتكاره. وهو جزء من المعارضة السياسية، فالمعارضة الدينية والمعارضة السياسية سواء. كما أن التسلط الدينى والتسلط السياسى سواء.
هل الفكر جريمة؟ وهل البحث العلمى تهمة؟ من المدعى؟ ومن المدَّعى عليه؟ وما قانون الاتهام؟ هل تظل سيفاً مسلطاً من الدولة ومن رجال الدين على رقاب المبدعين، مفكرين وشعراء وأدباء وفنانين؟ إن حرية الرأى جزء من الدستور ومن الحقوق الطبيعية للإنسان. لا يمكن سلبه أو نقضه. وإن لم تتم ممارسته علناً تتم ممارسته سراً. وعادة ما ينتصر السر على العلن كما هو الحال فى معظم الحركات السرية الدينية والسياسية.
غاية التكفير الشهرة والإعلام وإثارة الزوابع والكسب من قنوات الفضاء التى لا تجد ما تعيش عليه إلا الإثارة، الدين أو السياسة أو الجنس. والرد على التكفير بالدفاع عن الكتاب والمفكرين هو نشر للبدعة، وانحراف بهموم الناس والإعلام إلى ما لا يفيد، وترك تهويد القدس وقضايا الفساد والقهر الداخلى. وما أسهل جر الناس إلى قضايا الدين، الجنة والنار، والملائكة ذكوراً وإناثاً، وعذاب القبر. لا يمكن توحيد فكر الناس وآرائهم ولكن يمكن توحيد أعمالهم مع الإبقاء على خلافاتهم النظرية. ممكن العمل فى جبهة وطنية واحدة فى برنامج عمل وطنى مشترك من أطر نظرية مختلفة كما فعل الرسول فى وضع الحجر الأسود فى عمامته، وإمساك كل قبيلة بطرف منها وهو ما أكده القرآن الكريم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).
هذا ليس دفاعاً عن شخص أو أشخاص أو دخولاً فى حادثة أو أحداث، بل هو دفاع عن تاريخ مصر، طه حسين وأمين الخولى ومحمد خلف الله حتى أحفادهم من الأدباء والكتاب والشعراء والفنانين والمفكرين والعلماء، وإبقاء على روح مصر وعقلها حتى ولو بدا الوهن على جسدها وبدنها.