مشروع قديم جديد طالما حنّ إليه القوميون لتحقيق حلم القومية العربية، ولم يرفضه الإسلاميون كخطوة نحو الوحدة الإسلامية، ويقبله الليبراليون كسوق أوسع من الدولة الوطنية. ويعتبره الماركسيون مطلبا شعبيا لتحقيق طموحات الطبقة العاملة. إحصائياته معروفة بالنسبة لعدد السكان حوالى أربعمائة مليون من العرب، وموارده المائية والمواد الأولية والعمالة فيه المتخصصة وغير المتخصصة معروفة. وهناك عشرات الدراسات حولها منذ السوق العربية المشتركة فى 1954 التى ظلت حبرا على ورق، وتأسس قبل السوق الأوروبية المشتركة الذى تحول الآن إلى الاتحاد الأوروبى. والتمنيات مرجوة ومكررة لا يشكك فيها أحد. فالكبير أفضل من الصغير فى عصر التكتلات والاتحادات القديمة والجديدة. أمامها صعوبات مثل كل شىء جديد يتخلّق بسبب النظم العربية، وليس بسبب الشعوب العربية بالرغم من اتساع الوطن العربى واختلاف مستوياته الاجتماعية والدخول المتدنية من بلد إلى بلد بين الأكثر غنى والأشد فقرا.
ومع ذلك يعود المشروع اليوم أكثر إلحاحا ليس لأسباب أيديولوجية بل لأسباب عملية خالصة، درء مخاطر التجزئة والتفتيت التى ضربت معظم البلدان العربية مثل العراق والسودان، والخطر الداهم أمام سوريا واليمن وليبيا والصومال ولبنان على الأمد القريب وعلى كل المغرب العربى على الأمد البعيد. وهو خطر ماثل على الخليج أيضا بتركيبة سكانه وطوائفه ومصالحه حتى تصبح إسرائيل أكبر دولة طائفية عرقية فى المنطقة تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية التى تعيش فيها بدلا من أساطير المعاد وشعب الله المختار التى لم يعد يقبلها أحد. ولولا أن مصر لها كيانها التاريخى الموحد ما استطاعت الحفاظ على وحدتها أمام مخاطر التجزئة والتقسيم.
وعناصر التكامل كثيرة. فى الزراعة وهى الأهم لحل مشكلة الغذاء فى الوطن العربى واعتماده حتى الآن على الخارج، المياه متوافرة فى السودان والعراق وأراضى الجزيرة فى السودان وما بين النهرين فى العراق تكفى لإطعام ضعف الوطن العربى. والعمالة المدربة متوفرة فى مصر. وقد كان فلاحو مصر يزرعون فى العراق بالملايين قبل احتلاله وتدميره. ورؤوس الأموال فى الخليج لتأسيس شركات زراعية للتسويق والنقل ولميكنة الزراعة وتجاوز أساليبها البدائية من أجل زيادة الإنتاج. وفى الصناعة، المعادن موجودة فى مصر، والطاقة فى الخليج والأسواق العربية تكفى لاستيعاب كل المنتجات الصناعية. والعرب شُطار فى التجارة منذ وصف القرآن لهم حتى ابن خلدون. استعملها القرآن للتشبيه فى علاقة الإنسان بالله. وجعلها النشاط الحر خارج أوقات الصلاة. وفى السياحة أراضى العرب مملوءة بالآثار منذ مصر القديمة وبابل وآشور وكنعان واليمن السعيد وسد مأرب ومملكة سليمان. وتاريخ العالم كله أو معظمه فى الوطن العربى.
وليس من الصعب إجرائيا تحقيق هذا التكامل المنشود. قد يتم بتقوية الجامعة العربية بحيث تكون لها سلطات أوسع. فتتحول إلى اتحاد الدول العربية كما تحولت منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقى وكما تحولت المنظمات الأوروبية مثل السوق الأوروبية المشتركة ومنظمة الفحم والفولاذ إلى الاتحاد الأوروبى. لا يعنى التكامل العربى إلغاء الدولة القُطرية وتحويلها إلى وحدة إنتاجية. فمازالت تجربة الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا 1958-1961 فى الأذهان. لم تعش إلا ثلاث سنوات ثم حدث الانفصال. يمكن تصور نظام فيدرالى أشبه بالولايات المتحدة الأمريكية أو جمهورية ألمانيا الاتحادية أو الجمهورية الأسبانية أو الجمهورية الإيطالية أو الاتحاد السوفيتى يعطى للسلطة المركزية ما يعطى للسلطات المحلية. الدفاع والخارجية للسلطة المركزية وما سوى ذلك فى أيدى السلطات القُطرية. فالوطن العربى متعدد الأعراق واللهجات والعادات والتقاليد والدخول. فالاتحاد الفيدرالى يبقى على التعددية ولا يضحى بالوحدة. يحافظ على سلطات الدول القُطرية ولا يلغى السلطة المركزية للدولة الفيدرالية. إنما تلغى الحدود لتنقل العرب، وصياغة شنجن عربية ومواصلات برية وبحرية وجوية عربية. ولقد كان يربط العرب أيام الدولة العثمانية سكة حديد الحجاز بين الشام والحجاز، وسكة حديد فلسطين بين مصر والشام. ينقص المغرب العربى سكة حديد المغرب العربى من الدار البيضاء إلى بورسعيد، وسكة حديد السودان من الإسكندرية إلى جوبا.
ويمكن البداية بالاتحادات العربية الجزئية وتعميم تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة فى الخليج عن طريق تقوية الاتحاد المغاربى الذى يضم المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان وموريتانيا، واتحاد وادى النيل الذى يضم مصر والسودان والصومال، واتحاد الشام الكبير الذى يضم الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق. ومن السهل بعد ذلك ضم هذه الاتحادات الجزئية الأربعة فى اتحاد عربى فيدرالى واحد. فاتحادات أربعة أفضل من اثنين وعشرين قُطرا عربيا. واتحاد فيدرالى عربى واحد أفضل من اتحادات أربعة.
هذا الاتحاد العربى الواحد له من يسانده فى دول الجوار، إيران وتركيا. وهو بؤرة تجمع أفريقى آسيوى كبير يحيى منظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا. ويكوّن قطبا ثانيا فى مواجهة القطب الأول أو بين القطبين التقليديين بين الشرق والغرب. وهو شريك لأوروبا، باعتباره على الشاطئ الجنوبى والشرقى للبحر الأبيض المتوسط، وبالتالى يقوى استقلاله بعيدا عن جذب الأطلنطى له. وتصبح أفريقيا وآسيا وأوروبا مركز الثقل الرئيسى فى العالم، كما كان من قبل اكتشاف نصف الكرة الغربى.
إن تكامل الوطن العربى ليس حلما أو مشروعا طوباويا أو خياليا كرد فعل على واقع التجزئة العرقية والطائفية الذى يهدد ما تبقى من عناصر وحدة فى الوطن العربى. فريح التغيير تهب على العالم، وحركات الشعوب فى الأفق. وروح الخمسينيات والستينيات قد تعود لتهب على الوطن العربى من جديد كى تحرره من الاستعمار الجديد وتغلغل الصهيونية وابتلاعها كل فلسطين. وتهب هذه المرة بعد أن تعلمت من تجارب الماضى.
العالم كله يتغير فى الشرق وفى الغرب وفى الجنوب وفى الشمال والوطن العربى ليس استثناء من القاعدة. ولا يستطيع الصمود أمام مهب الريح. فقد هبت الريح على روسيا، وبدأت تسترد عافيتها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية فى 1991. وبدأت تستعيد أنفاسها فى آسيا وفى شرق أوروبا. والصين من ورائها تنتظر الوثوب السياسى بعد الوثوب الاقتصادى. وأمريكا اللاتينية فى الجنوب تصحو من جديد وتنتفض ضد العولمة والهيمنة للشمال. والبداية فى فنزويلا وبوليفيا والبرازيل ولكنها ليست النهاية. وقوى اليسار قادمة إلى أوروبا، وتنتقل من الشارع إلى القصر، ومن المظاهرات الشعبية إلى النظم السياسية فقد عصفت الأزمة المالية بالمعسكر الرأسمالى الذى لم يفق من الصدمة بعد. وبدأ يعى مقالب النظام الرأسمالى. والعولمة لم تستمر أكثر من عقدين من الزمان حتى بدأت تترنح.
يبدو أن روح العالم بدأت تتحرك من جديد. وكما بدأت من الشرق القديم، ومن الصين والهند وفارس ومصر القديمة وبابل وآشور وكنعان مرورا باليونان والرومان والعرب المسلمين حتى حطت فى أوروبا وأمريكا فإنها تعود من جديد لتهب على الشرق منتقلة من الغرب مرورا بالوطن العربى عائدة إلى الهند والصين. وهو ما يسمى لدى فلاسفة التاريخ المحدثين ريح الشرق.
تكامل الوطن العربى إذن جزء من مساره التاريخى، ومرحلة فى تطوره الطويل وقدره المستقبلى. فلا سياسة بلا تاريخ. ولا تنمية قصيرة دون تخطيط طويل. وإلا فما فائدة النبوة والأنبياء من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد حتى آخر الزمان فى القيامة والمعاد.