x

د. ياسر عبد العزيز فى مفترق طرق د. ياسر عبد العزيز السبت 26-03-2016 21:39


لست من الذين يرتاحون كثيراً لاستخدام عبارات مكررة من نوع: «منعطف تاريخى»، و«تحديات غير مسبوقة»، و«تطورات مفصلية»، وغيرها من العبارات التى قيلت كثيراً، وفى آونة مختلفة، بحيث فقدت معناها، أو أفقدت المستمعين الإحساس بصدقها وأهميتها وتعبيرها عن الواقع.

ورغم ذلك فإننى أبدو مضطراً اليوم لاستخدام عبارة من النوع ذاته، وهى عبارة «مفترق الطرق».

وقبل أن تأخذك الدهشة من سَوْق مثل تلك العبارة فى تلك الأثناء بالذات، حيث نعانى من الركود وغياب الحماس وفقدان الإلهام وانحسار الخيارات، إلى درجة دفعت بعض مثقفينا إلى الاعتقاد أننا نبدو كـ«ركاب سيارة متهالكة معطوبة، تمضى إلى هاوية فى مسار إجبارى حتمى»، فإننى سأسارع بتأكيد أننا فعلاً فى مفترق طرق حقيقى، وأن فرص الاختيار مازالت قائمة.

تقف السلطة على رأس مفترق الطرق الذى يأخذنا إلى ثلاثة اتجاهات متعارضة، وتؤكد أن الطريق الوحيد الآمن أمامنا هو طريق «الاصطفاف والصبر».

تجد السلطة ذرائع وجيهة لتسويق فكرة «الاصطفاف والصبر»، وهى ذرائع تبدأ بما يحدث فى سوريا وليبيا واليمن والعراق، وتتوسل بحقيقة أن «مبارك ترك مصر خرابة، ومؤسساتها منهارة»، وتستند إلى واقع «التحدى الإرهابى»، وتتعهد بالعمل المُجد المخلص، وتطلب المؤازرة، أو التحمل، والسكوت، والكف عن السؤال.

وفى مقابل ما تطرحه السلطة وتصر عليه، بحيث يبدو أنها لا تعرف غيره ولا تريد غيره، سنجد طريقاً آخر تطرحه القوى الوطنية الحية، التى صنعت «ثورة يناير»، وساندت «ثورة يونيو»، وصاغت الدستور، ودعت إلى إقراره، وانتخبت السيسى رئيساً، وتوقعت «تغيراً جوهرياً حقيقياً»، يأخذ مصر إلى مكانتها المستحقة.

إن تلك القوى الوطنية تنطلق فى مشروعها، وطريقها المقترح، من نداء «ثورة يناير»، ومطالبه الواضحة: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية»، وهى- فى معظمها- تعتقد أن الطريق الوحيد الذى يمكن أن يلبى هذا النداء هو طريق الانتقال الديمقراطى التدريجى السلمى المدروس.

تعتقد تلك القوى أن تجاهل المطالب الديمقراطية، بما تشمله من تداول سلطة، وحقوق إنسان، هو عمل ضد التاريخ، وأن تبنى المسار الديمقراطى ضمانة أساسية لتحقيق التقدم والخروج من الوضع المأزوم الراهن.

سيمكن فهم أن السلطة مازالت تصر على خيار «الاصطفاف والصبر»، ولا تؤمن أو تتفهم فكرة «الانتقال الديمقراطى»، وأن سوء فهم عميقاً بدأ يظهر بين الجانبين وأنصارهما، وربما أخذهما بالفعل إلى صدام.

ثمة طريق ثالث يظهر بوضوح، وهو طريق الفوضى والانهيار.

لا يريد أى من الجانبين سلوك هذا الطريق بالطبع، لكن ثمة قوى داخلية وخارجية تعمل من أجل دفعنا إليه، وبسبب هذا التربص والكيد، وبسبب أن هذا الطريق يمثل مطمحاً رئيساً لقوى الإرهاب ومن يساندها، فإن السلطة تستخدمه أحياناً «فزاعة»، ووسيلة لتكريس فكرتها عن ضرورة «الاصطفاف والصبر».

ألا يوجد طريق رابع يمكن أن يحل هذا الإشكال، ويخرجنا من هذه المتاهة والدائرة المفرغة؟

لحسن الحظ فإن ثمة طريقا رابعا لم يكن مناط رهان، وهو طريق «الحوكمة والإنجاز»، والحوكمة هى «خليط من السلام والنظام والحكم الرشيد، ورغم أنها لا تقنن منح السلطة أو تنازعها فى أحيان عديدة، فإنها تلزم الحكم بقرارات ناجعة تصادف التوقعات، وتحتم التحقق من الأداء».

لا تعنى «الحوكمة» إذن إقامة نظام استبدادى، وانتهاك حقوق الإنسان، وممارسة الطغيان، وتكريس الديكتاتورية، بل على العكس تماماً، فهى تتطلب استقرار النظام، وهو أمر لا يتم من دون القبول والرضا، وهذان العنصران لا يتحققان فى ظل الاستبداد والطغيان، بل يتحققان من خلال الإنجاز، وإخضاع الأداء للتقييم، ومحاربة الفساد، وحماية المصالح العليا، وصيانة الأمن القومى، وتحقيق التوقعات.

لن تكون «الحوكمة» هى الطريق الدائم والمستمر، لكنها ستكون «الجسر» الذى سيقود شعبنا إلى بناء مؤسسات ديمقراطية، واعتماد آلية تنافسية لنقل السلطة بناء على تصويت الجمهور فى الصناديق، فى وقت ليس بعيداً.

سنجد نماذج لـ«الحوكمة والإدارة الرشيدة» فى بلدان مثل الصين، وسنغافورة، والإمارات، وغيرها.

لكن اختيار طريق «الحوكمة والإنجاز» يحتاج إدارة رشيدة، قابلة للمحاسبة، وتمتلك رؤية معلنة واضحة وقابلة للتحقق، وتساعدها كوادر قادرة ومُختارة بعناية، وتستهدف درجة من النجاعة فى الأداء، وتمتلك آليات تقويم وردع لمن يعمل بالخدمة العامة.

إن الجمهور قد لا يتحمل «الاصطفاف والصبر» طويلاً، والقوى الوطنية الحية لن تبلع «الخطل والتخبط» و«انتهاك الحريات» بسهولة، والفوضى خيار لن نقدر جميعاً عليه ولا نريده، ولا يبدو أن أمامنا طريقاً أفضل من «الحوكمة والإنجاز»، وهو طريق لن يمكن الوصول إليه من دون إقرار «قائد السيارة المعطوبة المتهالكة» بأن الطريق الذى يصر عليه ليس الوجهة الصحيحة أو المأمونة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية