هل كتب على العرب أن يظل اختيارهم محصورا بين السيئ والأسوأ ؟
لم يعد لديهم خيارات أفضل لمستقبلهم الذي فشلوا في أن يضعوا له خطة استراتيجية تتماشى مع الحداثة، وتتوافق مع ميراثهم الفكرى والحضارى، والذى ظللنا عقودا نردد شعاره «الصالة والمعاصرة».
بعد وفاة الزعيم عبدالناصر مات مشروعه، وانهار الاتحاد السوفيتى، وانتهى دور كتلة عدم الانحياز وصعدت أمريكا منفردة إلى سدة حكم العالم، ولم يجد العالم العربى مشروعا بديلا للمشروع الغربى ليحتذى به، وأصبح نقل التجربة الغربية غاية المراد والمنى وعنوان التقدم والتنمية.
حاول معظم الحكام العرب أن ينقلوا التجربة الغربية تامة غير منقوصة إلى فيما يتعلق بموضوعين: الديمقراطية والالتزام بحقوق الإنسان، فهذا شأن داخلى احتفظ به الحكام لأنفسهم، فهم أحرار مع شعوبهم، وفضلوا أن يحكموا بميراث الاستبداد والديكتاتورية والفساد.
بعد نجاح الثورة الإيرانية، نجح رجال الدين هناك في أن ينسبوها إليهم ويجعلوها دولة يديرها المرشد والفقيه، هذه الثورة لم تجد رواجا في الشرق الأوسط، وخاصة مع مخاوف انتقال جمراتها إلى الدول المجاورة لتشعل الفتن وتسقط العروش.
عاشت الدول الخليجية، وبخاصة السعودية في قلق وتوتر، وهو ما جعلها تستنجد بفتوة المنطقة «صدام حسين» ليصبح ذا القرنين الجديد، الذي مولته دول الخليج لسنوات طويلة، على أمل أن يجعل بينهم وبين الفرس سدا.
ولم يحسم الفتوة الموقعة، وخرج من حربه الطويلة مع إيران بجراح نازفة وبلد يحتاج الدعم والمساندة العاجلة، وانقلب الحال، وبدلا من أن يشهر الفتوة «نبوته» على الفرس أشهره في وجه أولاد حارته، وكان ما كان، وقدم العرب رأس صدام حسن على طبق من فضة بعد رقصة قصيرة قدمتها سالومى العصر والأوان، وطويت آخر صفحة في كتاب «الوطن الأكبر»، وبدأت المحنة العربية بالفوضى الخلاقة صناعة يو إس إيه.
وبدأ الخوف من الغد يحل محل الطمأنينة والدعة.
الشعوب العربية عرفت معنى التمرد، وبدأ نسمات الربيع العربى من تونس الخضراء، وطرحت سنابل في التحرير، وانتقلت حبوب اللقاح إلى ليبيا وسوريا واليمن، المد الثورى والرغبة في التغيير تحول إلى طوفان يهدد العروش المستقرة، تغيرت القواعد المستقرة من عقود خلال شهور قليلة.
ونجح الإخوان في الوصول للحكم في مصر وتونس، لم تكن تجارب ناجحة، رفضها المصريون والتونسيون أيضا، الأولون بثورة، والآخرون بصندوق الاقتراع.
التجربة التركية كانت متوهجة في أذهان العرب حكاما وشعوبا، في ذلك الحين وجدت نساء العرب في مهند عاشقا، ووجد الرجال في أردوغان بطلا.
وأصبح النموذج التركي الذي أثبت أن الإسلام لا يتناقض مع الديمقراطية- هو النموذج الذي يتمناه الجميع، انخدع الملايين بأردوغان واستبشروا خيرا عندما وضع حداً لتدخل الجيش في السياسة، وعندما انتقد السياسة الإسرائيلية وطالب بالعدالة للفلسطينيين، رغم العلاقات الوثيقة التي تربط البلدين بعيدا عن الشو الإعلامى.
حاولت تركيا البرجماتية ان تستفيد من علاقتها بكل دول الجوار مع إيران، كانت البضائع تمر عبر أراضيها متحدية الحصار المفروض عليها من المجتمع الدولى، وكانت لروسيا خير حليف، وعرفت مع سوريا الأسد شهر عسل طويل انتهى بمطالبتها بالخلع، وأصبحت بالمناورة شريكا أساسيا في الصراع السورى، وتخلت ببساطة وبدون تأنيب ضمير عن حلفاء الأمس من أجل حلفاء اليوم، ولا أحد يعرف من سيكون عليه الدور غدا.
إيران وتركيا من الدول الكبرى، تتشابك مصالحهما مع الدول العربية، والجميع شركاء في الشرق الأوسط الكبير، والدولتان لهما ثقلهما في محيطيهما الإقليمى وأهمية في المجتمع الدولى، ولقد ورثتا إمبراطوريات كبيرة، ومن الطبيعى أن يكون لكل منهما أهداف ومصالح تسعى كل منهما لتحقيقها، وقد يتعارض مع مصالح الدول العربية، وهذا شىء طبيعى ومقبول في عالم السياسة البعيد عن الأخلاق والقيم، فمنذ كتب مكيافيلى كتابه «الأمير» والمصلحة تنتصر على القيم والسلطة لا تحكم بالحق.
ولأن المصالح الإيرانية تتعارض مع مصالح الخليج في هذه الفترة الآنية، على عكس الحال بالنسبة لتركيا حاليا، نجد ميلا غير مرشد لتعويض الضعف العربى بقوة السلطان العثمانى.
وهنا يكمن الخطر، وتتكرر الأخطاء والخطايا.
وللحديث بقية غدا بإذن الله.