x

جمال الجمل درس في الاشتباك السياسي جمال الجمل السبت 20-02-2016 22:15


(1)

قد يتصور البعض أن الكتابة عن جيلٍ رحل معظم أبناؤه (كلهم تقريباً)، تعد نوعاً من الهروب، والتحايل الساذج لتجنب الاشتباك في القضايا الساخنة التي تفرض نفسها على كل تفاصيل حياتنا، كنت أتمنى لو أن هذا التصور صحيح، فهذا يساعدني على استراحة مُشتهاة لالتقاط الأنفاس، وتجنب خطر الحبس في قضية نشر، والأهم: البعد عن «وش أمناء الشرطة الساعة دي»، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فقد فكرت (أثناء منع مقالاتي من النشر) في الابتعاد عن الكتابة الصحفية تماما، وناقشت الأستاذ هيكل في ذلك بالفعل، فسألني باهتمام عن خطتي للمستقبل، ولما صارحته برغبتي في الانتقال إلى مرحلة الكتب الأدبية والدراسات البحثية الطويلة، تجاوب معي من حيث المبدأ، وتناقشنا في أمور كثيرة تخص ذلك التوجه، لكنه طلب مني بشكل مباشر (بل حرضني) أن أواصل الاشتباك: البلد محتاجة مقالات كاشفة تعمل «نوبة صحيان».. استنى شوية على الكتب، يجب أن تستمر في الكتابة الصحفية، فالمرحلة تقتضي ضرورة الاشتباك.

قلت وأنا أرسم نصف ابتسامة على فمي: يعني الهم ورانا ورانا، والاشتباك أصبح «ضرورة في مواجهة الضرورة»؟

لم يبتسم الأستاذ، لكنه علق بنبرة هادئة وعميقة حفرت نفسها في ذاكرتي: «المرحلة كلها.. ضرورات تتقاطع مع ضرورات، والاشتباك المطلوب ليس لتعميق الأزمة وتعقيد الخيوط، ولكن بأمل حلها»، ونقل الحديث إلى قضية أخرى، مطمئنا على استمراري في الاشتباك مهما كانت طبيعة المنابر المتاحة.

(2)

أعترف لكم أنني لما بدأت الكتابة عن مسيرة الدكتور بطرس غالي السياسية، كنت أطمح لاستراحة مؤقتة من توتر الاشتباكات التي أصابتنا جميعا بالأمراض العضوية والنفسية من كل نوع، ولم أكن أتصور أن وعدي للأستاذ هيكل يتعارض مع هذه «الاستراحة المؤقتة»، لكن تزامن رحيله مع الدكتور غالي، صنع مفارقة لا يمكن تجاهلها، بل ورط هيكل نفسه في الاشتباك (وهذا ما لا أرغب فيه الآن)، لكن احتراما لنصيحة الأستاذ التي ناقشتها يومها مع عدد من أصدقائي فأيدوها، أتعهد لكم بأن لا تكون «مقالات الاستراحة المفقودة»عن الدكتور غالي، مجرد كتابة «متحفية»، أو «متحفظة»، أو «جنائزية»، ولن أستهلكها فقط في سرد المعلومات، ولا في تعداد المآثر التي تليق بحفلات التأبين، بل أطمح أن تكون في عمق الاشتباك المطلوب، وهو لا يعني في كل مرة «الالتحام المباشر» بالقضايا المثارة وفقط، ولكن قد يأخذ شكل القصف الموجه من مسافة أبعد، أو التخفي والإسقاط كما يفعل جنود الصاعقة، وكما هو الحال في مسلسلات الدراما التاريخية التي تناقش الواقع من خلال الأقنعة الفنية.

(3)

يحكي الدكتور بطرس غالي في مذكراته موقفاً صريحاً أسقط فيه كل أقنعة الدبلوماسية التي تعامل بها لأكثر من 40 سنة مع اسم وصورة هيكل، كان الموقف في باريس مطلع صيف 1999، وأنقل الحكاية بالنص من مذكرات غالي: فيما كنت أنا و«ليا» (زوجته السيدة ليا نادلر) نتناول الغداء في جو هادئ بحديقة نادى الحلفاء، برفقة صديقة طفولتنا مارجريت بيتان «هجم علينا» بالمعنى الحرفى للكلمة الصحفى «محمد هيكل» وزوجته، وعانقني بحرارة، وهو يبدي كل مظاهر التودد، مع أن هذا الرجل بالذات، ومنذ أسابيع قليلة، أوسعنى شتما في مقال لاذع، تناول فيه كتابى «طريق مصر إلى القدس»، ولم يتورع عن اللجوء إلى شتى أنواع الافتراءات.

(4)

اللافت أن غالى ذكر هيكل بالخير في الصفحات الأولى من نفس الكتاب (بدر البدور) وقال إنه «من صفوة الكتاب»، ثم كشف بعد ذلك بوضوح عن عدم ارتياح شامل تجاهه، ووصفه بأوصاف حادة منها «الحقود»، حيث قال بالنص: لقد أضمر هيكل حقدا عنيفا وشرسا بشكل مستمر للرئيس السادات، لأنه أقصاه عن الحياة العامة، لذلك لم يتوقف هيكل قط عن اتهام الرئيس السادات، بأنه خان فلسطين وباعها من أجل استعادة سيناء.. إن هيكل يعتبر نفسه القائد، والعقل المفكر لأنصار خط النضال العربى الراديكالي المتشدد الذي نادى به جمال عبدالناصر في زمانه. ويضيف غالى محللا تصرف هيكل بأسلوب نفسى: لم تكن مظاهر التودد الاستعراضية التي اقتحم بها هيكل جلستنا العائلية أنا وزوجتي وصديقتنا، إلا فرصة للحصول على مبرر ليقول أمام أصدقائنا المشتركين في القاهرة: إننى لا أكن له أي ضغينة، وإن علاقاتنا ممتازة.!

(5)

المقال اللاذع الذي كتبه هيكل وأوسع فيه غالي شتماً (حسب تعبيره) كان درسا عظيما في مقالات الاشتباك، فهو نقد موسع لأول كتاب من مذكراته السياسية، وهو كتاب «طريق مصر إلى القدس» الذي تضمن يومياته كوزير دولة للشؤون الخارجية في عصري السادات ومبارك، وهي فترة طويلة امتدت 14 سنة (من 1977 حتى 1991)، ونشر هيكل مقاله «اللاذع فعلاً» في مجلة «وجهات نظر»- عدد مارس 1999م تحت عنوان «بطرس غالي بين الوساوس والحظوظ»، وهو مقال طويل من النوع الذي يسمى في الصحافة العالمية «Narrative article» أي «المقال السردي» أو «المقال القصصي التفصيلي»، واستغرق هيكل في كتابته أكثر من سنة، واستخدم فيه شهادات ووثائق مثيرة للدهشة في ذلك الوقت، حيث حصل مثلاً على نص المذكرة التي قدمها غالي لمكتب الرئيس مبارك (لعل الدكتور مصطفى الفقى يفيدنا برأيه في كيفية تسريب وثائق الرئاسة في تلك الفترة)، كما حصل على محاضر الاجتماعات المغلقة في مؤتمر رؤساء دول وحكومات منظمة الوحدة الأفريقية في أبوجا يونيو 1991، بالإضافة إلى استخدامه لشهادات ونقاشات مباشرة، ومعلومات مدققة عن الشخصيات الكبيرة التي تمسك بخيوط التحريك والتأثير على ساحة السياسة المحلية والدولية، ومن بينها الخلاف في التقديرات بين جورج بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر، الذي رفع حظوظ غالي في الفوز بمنصب سكرتير عام الأمم المتحدة.

(6)

قد يكون التعرض لمقال هيكل اللاذع مهماً جدا في فهم شخصية الدكتور غالي، وفي فهم أصول مقالات الاشتباك السياسي، لكنني فكرت (ومازلت أفكر) في تأجيل ذلك، لأن موضوعي الأساسي ليس الاشتباك لمجرد الاشتباك، وليس تعكير الأجواء، وإفساد صورة الشخصيات والتاريخ والواقع باصطياد السلبيات، لكن هدفي هو محاولة فهم ما يدور في كواليس صناعة القرار السياسي من خلال يوميات الدكتور غالي، وكذلك محاولة قراءة شخصية غالي نفسه من خلال الأحداث التي سجلها في يومياته، ولهذا أعود إلى غالي ومذكراته، وأختتم المقال بمفارقة جديدة تجدون طرفها الأول في مقال أمس، وهي الفقرة التي سجلها غالي في الكتاب الثالث من مذكراته ردا على ما وصفه بهجوم هيكل الشرس عليه، بسبب سفره مع السادات إلى القدس، وقال غالي في تلك الفقرة بقدر كبير من الفخر والاعتزاز: «إن هذه الرحلة التاريخية ستبقى، وحتى وفاتى، ذروة مسيرتى السياسية»، ويبدو أن مشاعر العناد مع هيكل جعلت غالي ينسى ما سجله في الكتاب الأول من مذكراته، والذي تناول فيه تفصيلا رحلة القدس ويوميات مشاركته في مبادرة كامب ديفيد، حيث قال في كتابه الأول إن مبادرة السادات مقامرة رجل ليست لديه تصورات واضحة، وليست لديه رؤية، ولا معلومات متماسكة، ولا ورقة عمل واحدة.. لقد بدأ مبادرته، وذهب مع الإسرائيليين إلى صلح منفرد، وهو يعلم ذلك، حتى تسبب في انتهاء قيادة مصر للعالم العربي.

هذا الكلام الراديكالي المتشدد على خط النضال العربي، قال به غالي، وليس هيكل!

وغداً نواصل قراءة يوميات «الدبلوماسي»، من غير توريط «الجورنالجي» في اشتباك سياسي بطريقة مختلفة.. لم يكن يفضلها.

جمال الجمل

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية