(1)
لا أخاف من الموت، لأنني مشغول بالحياة، وأعمل لها وفيها كل حساب، فالحياة الجيدة في نظري، هي الخامة الأساسية التي نصنع منها «موتاً جيداً»، لذلك (وبكل صراحة) لا أجد حرجا في مناقشة ما فات من حياة الموتى، طالما يتعلق الأمر بتحسين حياتنا واستخلاص الدروس والمواعظ النافعة من متحف الموت العظيم (التاريخ)، فأنا من المدرسة التي تؤمن بأن «الموت لا يجعل الميت أفضل»، لأن ما فعله قد فعله، ولا حيلة لنا في إضافة سطر جديد في كتابه المطبوع، علينا فقط أن نقرأ بأمانة، ونتعامل باحترام، ونفهم ما يفيد.
(2)
لا أعتقد أن هذا المدحل يكفي لتبرير مقارعة ونقد «الميت» بنفس الأسلوب الذي ننقد به الحي الفاعل، فالميت الآن «غائب»، غير فاعل، لا يستطيع النقاش والرد والدفاع عن نفسه، لذلك فإنه من العدل والعقل والاحترام ألا نتجنى على «غائب»، وأن نتجنب الإساءة إليه بما ليس فيه، وبما فيه لكنه لن يفيد الأحياء في شىء، وهذا لا يعني الاكتفاء بذكر محاسن الموتى وفقط، لأن هذا يعني أن كل ميت عظيم بالضرورة.. طبعاً من واجبنا أن نذكر المحاسن، لكن من واجبنا أيضا أن نتعرف على العِبرة، فلا أحد ينكر أن الموت عِبرة بشرية ساطعة، لذلك فإن المبالغة في جانب واحد (تمجيد أو تنديد) قد يهدر العِبَر، ويضر بالقيم الإنسانية، ويضعف فرصة البشر في التعلم والتطور واستفادة الأحفاد من تجارب الأجداد، لكن إذا توفرت هذه الضمانات العادلة والعاقلة يمكن للأحياء محاسبة الموتى من الشخصيات العامة (دنيويا وليس دينيا)، طالما أن ذلك يفيدنا في معارك المستقبل أكثر مما يجرنا إلى صراعات الماضي، وطالما أن البحث والنقاش يصب في مصلحة الحياة والأحياء، وليس طقسا استعراضيا حول القبور، أو مفاخرة أو منابذة يستغل فيها المتصارعون سيرة الموتى، سواء كان ذلك للتقديس أو للتدنيس.. لصناعة تماثيل المجد أو لنبش القبور، عفانا الله من الغرور ومن التجني الحقير.
(3)
بدأت الكتابة عن الدكتور بطرس غالي، معتمدا على قراءة اليوميات التي سجلها بنفسه، فظروف الحياة والعمل لم تتح لي فرصة الاقترب المباشر منه سياسيا ولا إنسانيا، وأثناء كتابتي لأول مقال عن غالي توفي الأستاذ محمد حسنين هيكل، وهو من نفس الجيل، لكن أحوال السياسة والصحافة قاربت بيننا، وأتاحت لي الكثر مما يجب كتابته عنه ومنه، لكنني احتراما لكلمة بيننا أؤجل كلماتي إلى وقت معلوم، ومن هذا أوضح أن أي ذكر لهيكل في معرض تناولي للدكتور غالي، هو من مصادفات القدر التي أشرت إليها في ختام مقالي السابق، فقد كنت أقرأ ما كتبه الدبلوماسي عن الجورنالجي عنما وصلني الخبر المتوقع لرحيل الأستاذ، ففرضت المفارقة نفسها بحيث أصبح من السذاجة التفريط في هذا الموقف الدرامي المثير للتأمل، والمحفز على الفحص المدقق لتاريخنا القريب.
(4)
ترجع علاقة غالي بهيكل إلى منتصف الخمسينات، حيث شاهده الأستاذ لأول مرة في اجتماع لتطوير مجلة «الأهرام الاقتصادي»، وبعد أسابيع قليلة فوجئ بالسيد بشارة تكلا (الحفيد) يطلب منه تعيين صديقه بطرس في المجلة، وكان ذلك هدية عيد ميلاد بطرس السادس والثلاثين، حسبما حكى لي الأستاذ القصة، ولما راجعته بعدها بأيام موضحا أن نوفمير 1957 هو العيد الخامس والثلاثين لغالي فقد ولد 1922 وليس 1921 كما قلت من قبل، قال بطريقته المميزة: ربما، لكنني أظن أن ذاكرتي أدق من أوراقك، المهم أنني شاركت في هدية الصديق لصديقه، ولم أعين بطرس محررا، بل رئيسا للتحرير، إلى جانب عمله الأكاديمي في الجامعة.
(5)
لم يكتب غالي شيئا من هذا في مذكراته السياسية التي سجلها في ثلاثة كتب منفصلة، وكانت إشاراته لهيكل نادرة ومقتضبة، فالفترة التي تتناولها المذكرات بدأت بعد خروج هيكل من «الأهرام» 1974، وإبعاد السادات له من المجال الرسمي، وفي تلك الفترة أصيب غالي ببعض الإحباط، ولما علم هيكل اتصل به ليطمئنه أن المستقبل مفتوح، ولا يرتبط بمؤسسة، حتى لو كانت «الأهرام»، ودعاه للقاء، واستمرت المودة الصافية ثلاث سنوات تقريبا، حتى دخل غالي المكتب السياسي للحزب الوطني، واستقال من الجامعة ليصبح وزير دولة، ويسافر مع السادات في الرحلة الصادمة إلى القدس، ما أدى إلى شرخ كبير في العلاقة مع هيكل، وقد وصف غالي بنفسه هذا الشرخ في كتابه «بانتظار بدر البدور» قائلا: يجب أن أعترف أن الشراسة التي يلاحقنى بها هيكل في كتاباته، بدأت منذ ذلك اليوم من شهر نوفمبر 1977، الذي طلب إلى فيه الرئيس السادات أن أرافقه إلى القدس، وهذه الشراسة لم تزدنى إلا صلابة، لأن هذه الرحلة التاريخية ستبقى، وحتى وفاتى، ذروة مسيرتى السياسية!.
(6)
المفارقة التي أتوقف عندها هنا، ليست حركة «طرفي المقص» بين أبناء ذلك الجيل، حيث يؤدي اقتراب طرف إلى اقتراب الآخر بنفس المسافة، وابتعاد طرف إلى ابتعاد الآخر بنفس المسافة، لكنني أفكر في خداع المرايا، وهوس التاريخ بالأحداث التي يضعها بين قوسين، فقد فتح نوفمبر 57 «قوس اللقاء» بين غالي وهيكل، واستمر الجوار الملتبس بين الطرفين طيلة 20 عاما حتى إغلاق القوس في نوفمبر 77، لكن الدراما لم تتوقف، والفراق لم يكن نهائيا ولا بغيضاً، وهذا ما نتعرف عليه في المقال المقبل من خلال رؤية غالي المزدوجة لهيكل.