(1)
قبل عشر سنوات تقريبا، تسببت في أزمة سياسية محرجة للدكتور بطرس غالي، مع رئيس الجمهورية (حينذاك وإلى حين غير معلوم) حسني مبارك، كان غالي قد نشر الجزء الثاني من مذكراته السياسية تحت عنوان «بانتظار بدر البدور»، وهي يوميات سجلها غالي بالفرنسية في مفكرته الخاصة عن الفترة التي أعقبت خروجه من الأمم المتحدة نهاية عام 1996، ولا حظت أن هناك تغيراً ملموسا في أسلوب كتابة المذكرات التي صدرت في بيروت قبل أيام من صدورها في القاهرة.
(2)
في أحد اجتماعات تطوير المحتوى بصحيفة «المصري اليوم» طلبت من الزميل مجدي الجلاد (في بداية رئاسته للتحرير) توفير نسخة من المذكرات قبل حفل التوقيع، للإنفراد بعرضها، لإحساسي أنها تتضمن بعض المفاجآت التي قد تثير الجدل، كان حدسي يعتمد على العنوان الغامض الذي يحاكي مسرحية «بانتظار جودو» للكاتب العبثي صمويل بيكيت، وعلى المقدمة التي تكرمت صديقة لبنانية بنسخها وإرسالها على بريدي الإليكتروني، بعدما أبديت دهشتي من قصة العراف الهندي، واعتقاد شخصية مثل بطرس غالي في النبوءات ولجوئه للعرافين، ولما تصاعدت تعبيراتي من الدهشة إلى الاستنكار؟، آثرت الصديقة أن تحسم الأمر خشية أن تتحول صدمتي إلى تكذيب لها، أو اتهام بقراءة خاطئة وتعسف في فهم قصة لها مغزى آخر، فنسخت هذه المقاطع وأرسلتها لي، ما جعلني أتلهف على قراءة الكتاب كاملاً.
(3)
استطاع الجلاد الحصول على أول نسخة مصرية من «بدر البدور» عن طريق صديق للناشر إبراهيم المعلم صاحب «دار الشروق»، كان ذلك في أحد أيام الخميس من عام 2005، وهو يوم إجازتي الأسبوعية، لكن الرغبة في قراءة الكتاب، والكتابة عنه قبل إطلاقه في حفل التوقيع، شجعتني على التضحية بأجازتي، واستلمت الكتاب مساء الخميس، وسهرت في قراءته برغم ضخامته (أكثر من 600 صفحة) وبرغم صدمتي في طريقة العرض بتسلسل اليوميات دون التقيد بموضوع، وهي طريقة ظالمة خلقت مظهراً من الجفاف على طريقة العرض برغم الصراحة غير المسبوقة في مذكرات أهل السلطة، لذلك لجأت إلى إعادة تصنيف اليوميات الواردة في الكتاب حسب القضايا وليس وفق الترتيب الزمني.
(4)
في اليوم التالي (الجمعة) كنت مسؤولاً عن الديسك المركزي، وتنسيق مادة الصفحة الأخيرة، وإعداد صفحة «عالم تاني» التي أكتب معظمها بنفسي، وكان لابد بعد ذلك كله أن أنتهي من عرض الكتاب، ورسم الصفحة التي ستنشر السبت، كان الأمر أشبه بورطة، وتشكك رئيس التحرير في إمكانية إنجاز ذلك، واقترح أن نؤجل العرض للأحد وننشر صفحة بديلة، لكن المدير الفني الدكتور أحمد محمود قال بطريقته: ما حدش يشغل باله، أنا واثق ان الصفحة هتمشي في ميعادها، وبعد انتهاء تحرير مواد العدد اليومي في الثانية والنصف تقريبا، كتبت الصفحة وملخص للصفحة الأولى في أقل من ساعة ونصف (كانت أيام، أما الآن فأنا أكتب في هذا المقال منذ عصر أمس)، وجلست أرسمها مع صديقي الفنان أحمد محمود، الذي صارحني قائلاً: لقد تصفحت الكتاب قبل أن تستلمه أمس، ووجدته مملاً، ولا يوجد فيه ما يشجع على القراءة.. لقيت حاجة تملا صفحة؟
قلت: هكتب 10 صفحات
* انت اتجننت.. هاتجيب مادة عدلة منين؟
- من الكتاب نفسه
* لقيت عناوين وللا هنعمل صفحة وفيات؟
قلت ضاحكاً: ما رأيك في عنوان:
«بطرس غالي: مبارك تشفى في خروجي من الأمم المتحدة»!؟
حملق الدكتور في وجهي بدهشة، ووضع أدوات الرسم على «الماكيت»، وقال وهو ينهض من على مكتبه: الموضوع كده محتاج رئيس التحرير، واعترض مجدي على العنوان، وطلب صفحة من «المبيت»، وبدأت المناقشات
* انت هتودينا في داهية، ماتدخلش رأيك السياسي في الصحافة؟
- ده مش رأيي، أنا دقيق جدا، وده «كوت».. فقرة بالنص
* مش ممكن يكون غالي قال كده.. هات الكتاب
(5)
كان عنوان التشفي مخصصا لموجز الصفحة الأولى من الجريدة (الفيتشر)، أما العناوين الداخلية، فلم يكن أحد قد قرأها بعد، وكانت على الوجه التالي:
بطرس غالي يفجر مفاجآت بالجملة عن أحداث مجهولة، ومسؤولين، ورجال دولة:
* مبارك تشفى في خروجى من الأمم المتحدة
- الجنزورى عابس ومعقد/ عاطف صدقى مرح بطبعه/ البابا شنودة يتلألأ بالذهب والفضة/ والسفير الأمريكى بارد كالرخام.
زادت حدة الاستنكار، حتى استخرجت التعبيرات بنصها من الكتاب، وتحول النقاش من الإطمئنان على دقة التعبيرات ووجودها دون مبالغة في المذكرات، إلى تقدير رد الفعل على نشر هذه الآراء الصادمة، وانضم الدكتور أحمد إلى صفي في ضرورة النشر، وبديموقراطيته الصحفية المعتادة في ذلك الوقت قال مجدي: قوموا خلصوني.. اتأخرنا على المطبعة
(6)
العنوان وحده كان «قنبلة» وأدى إلى زلزال صحفي وسياسي، ونقلته كل وكالات الأنباء، ومع توالي نشر الصفحات، اتصلت الرئاسة بالدكتور غالي، وعاتبه مبارك على ما قال، وكانت لغالي ردود مؤقتة لامتصاص الموقف المحرج بخبرته الدبلوماسية الكبيرة، وردود أخرى أكثر صراحة في ملامسة الحقيقة، لكن قصة يوميات غالي بكل تفاصيلها تصلح الآن لقراءة الكثير مما يحدث حولنا وبعيدا عنا في كواليس السلطة.
وغدا أكتب عن مواعيد القدر ومفارقات السياسة والحياة.. عن دراما الصراع والوفاق بين الأستاذ هيكل رحمة الله عليه والدبلوماسي غالي قدس الله روحه.
جمال الجمل
[email protected]