(1)
إنتهت العصور الوسطى بمقولة مثيرة للجدل خلاصتها أن «الدين فشل في إسعاد البشرية»، وأدى إلى تمكين الاستبداد وحبس الله داخل الكنيسة!
(أستغفر الله العظيم) هذا ليس قولي الشخصي، إنه قول العلمانيين الملحدين الذين انبهروا بالعلم وحاولوا تأليه الطبيعة، قبل أن يكفروا بالعلم بعد قرون، لأنه جاء بالتلوث، وخرم الأوزون، وحرق الغابات، وابتلانا بأمثال الجنرال عبدالعاطي، هؤلاء الناس الذين يقفون على «الحافة» دائما، وجهوا للعلم نفس التهمة التي وجهوها من قبل للدين، فقالوا إن «العلم فشل في إسعاد البشرية»، وأدى إلى تمكين الاستبداد وتوسع الفساد، وتلويث البئية، والإضرار بصحة الكوكب الذي يأوينا«!
هؤلاء «الانسانيون الجدد» يبحثون الآن عن صيغة ثالثة بديلة!
(2)
ماهي هذه الصيغة التي يمكن أن يراهن عليها الإنسان (حتى لو بالوهم) بعد أن ضعف الرهان على السماء، واكتملت جريمة استحلاب الأرض وتلويثها؟، وهل مكتوب على الإنسان أن يستمر قرونا أخرى يعاني، ويكافح، ويحلم بالعثور على الفردوس الضائع، ثم يكتشف مجددا، أنه أخفق كالعادة، وليس أمامه إلا البحث عن صيغة سابعة ورهان سابع عشر؟
(3)
يا عزيزي الحالم، إن ذئاب الواقعية من الانتهازيين المتمرسين، المجبولين على النصب بالفطرة، لا يفكرون مثلي ومثلك، فهم يبيعون كل شئ تمسكه أياديهم، أو تراه عيونهم، أو يمكن تعليبه، حتى لو كانت السلعة هي قلوبهم وعقولهم، بل أقول بمجاز قد لا يبتعد كثيرا عن الواقع: حتى لو كانت السلعة هي أمهاتهم!
المراقب للأعراض التي يعاني منها عالمنا المتضخم يلاحظ بوضوح السلعة الأكثر رواجا وربحا في هذا الزمان، فبعد الأرض والماء، والسلاح والنساء، والمخدرات والدواء، صار «الإعلان» هو الكيان، هو الموضوع، هو الايديولوجيا، هو كل شئ
قرب قرب.. عندي اللي يخللي العجوزة صبية، ويرجع مرسي الاتحادية، اشتري واحدة تاخد التانية هدية، واعمل تفويض يا نور عينيا، أخللي حياتك مهلبية..
مكملين، الزمالك قادم، الثورة مستمرة، بكره تشوف، من أجلك انت، خريطة المستقبل، بكره هتشوفوا العجب...
(4)
في هذه المرحلة التي تخاطب «غريزتك الأساسية»، يتراجع «ريتشارد ستون» و«أوليفر ستون»، وتصعد «شارون ستون» و«سيلفستر ستالون»، تغيب المحاسبة والعقل وينتشر الإسفاف والقتل، ولكن في صورة إعلانات مسلية: قتلنا 60، حكمنا بإعدام 30، سنخفض السعار، سنصير «أد الدنيا».. كل شئ تحول إلى إعلان، حياتنا كلها إعلانات براقة تغرينا بسلع فاسدة.. العدل إعلان، الثورة إعلان.. السياسة إعلان، توفير الطعام إعلان، خفض الأسعار إعلان، الديموقراطية إعلان، والبرلمان إعلان، مصر المحروسة استقالت من مسؤوليات الحضارة، ودخلت برجلها الشمال إلى حانة «وش السعد»، حيث يتصدر السكارى الموائد، ويرقص المتخمون على الشاشات لتخدير الجياع وإقناعهم بنعمة الفتات، وبينما يرفع الأغنياء الدعم عن الماء، ينفقون بسخاء على منصات الابتذال المثيرة، ويسرحون ببضاعتهم الفاسدة في عصر الجماهير الغفيرة، ليجمعوا ما تبقى من «وعي» في رؤوس العقلاء، ومن «مال» في جيوب الفقراء.. الوعي يدفنونه في مستودع النفايات، والمال يرفع أرصدة اللصوص في الحسابات
(5)
صورة وزير الإعلام النازي الشهير يوسف جوبلز تملأ الفضائيات، وصوته يتردد في كل مكان: «جوع كلبك يتبعك». تخرج الجماهير في طوابير طويلة تختلط فيها همهمة الاحتجاج بمناشدات ملء البطون، بينما تظهر الشاحنات الصفراء مكدسة بوجبات الطعام، فتختفي همهمات الاحتجاج لصالح المناشدات وشكاوى التوسل: أنا ما خدتش.. وانا ماخدتش..، فيشخط الفوهرر: انتو هتاكلوا ألمانيا؟.. يا أخي مش قادر أديك..
(6)
يرفع جوبلز صوته: عاش الفوهرر، هذا الرجل خطير قادر على تحقيق «العجب»، لديه صندوق سحري، إذا وضعت فيه النقوط «دوغري»، ستكسب هدايا كثيرة، ولكن بعد نقطتين، ويستمر جوبلز في الدعاية الكاذبة حسب أحدث صيحة في فن الإعلان، الفوهرر يعدكم بمستقبل «أكثر بياضاً» و«حجر حياته أطول»، و«عاصمة جديدة» و«قناة جديدة»، و«إدارة عفيفة» و«أجهزة أمنية نظيفة»، و«قضاء شااااامخ»، لكن لدينا شروط، لابد أن تسترخي تماماً، وتسلم عقلك تماماً، وتبتعد عن بتوع المؤامرة تماماً، وتسمع الكلام تماماً.. والكلام التمام هو ما يقوله الفوهرر، أما كلام أهل الشر فهو ما يمليه عليك تفكيرك الثوري، وهذا التفكير هو الوسواس الخناس.. ربيب المؤامرة، لذلك يحميك الفوهرر من هذه الآفة، فيحبس الثوار، ويعفيك من «البهدلة» في الميادين، ويريحك من التفكير في الظلم والعدل، والسؤال عن الحق والباطل، الفوهرر ديموقراطي أصلي، ويسمح لكل مواطن نجح في اختبارات الفرز والتعليب والتعقيم، بالتصويت على قوانينه وقراراته (بالموافقة طبعا وليس سواها)، وبعدها إذا قال بنو أمية إن الكرة مربعة، فهي مربعة بالإجماع، إما إذا ظهر أبوذر وقال غير ذلك، أو تشدق بالاشتراكية والبتاع، فاقتلوه، أو خذوه، ليتعلم الديموقراطية في إرسالية إلى قسم المطرية.. إنه أقلية.. من بتوع الـ3%.. يا أبا ذر أفسح الطريق لقطار الأغلبية.!
....................................................................................................................................