(1)
لقد أصبحوا الآن «يبرمجون» سياسات الدول، ورغبات الناس في الاستهلاك، وحالة الطقس، وربما مواصفات الحبيب والحبيبة، لكنهم يكررون فشلهم في برمجة العواطف والمشاعر، فهل يعني ذلك أن الفرصة لاتزال سانحة أمام الرومانسيين لكسب المعركة، برغم كل هذه الصعوبات والهوس المادي الذي يسيطر على العالم؟
(2)
هناك إجابة واقعية واحدة تؤكد أن السؤال نفسه مجرد «وهم رومانسي»، لأن المعركة انتهت لصالح شياطين الفساد في الأرض.
(3)
كنت وما زلت أرفض هذه الرؤية الواقعية، برغم الأدلة الدامغة التي تؤكدها يوميًا: نشرات الأخبار، وتقارير أجهزة المخابرات، وانتعاش الأفكار المنحرفة في كل المجالات، بل واعتبارها أحدث صيحة في منتجات حضارة «ما بعد الحداثة»، حيث ينعدم المعنى والهدف والزمن والسياق، وتتقاطع الطرق في متاهة دائرية لا تفضي إلى شيء، فالناس يمضون في الطرق الصحيحة بغية تحقيق أهداف فاسدة، ثم يغيرون اتجاهاتهم ويمضون في الطرق الخاطئة بغية تحقيق أهداف نبيلة!
(4)
هذا الارتباك ظل حتى وقت قريب، معلقا في رقبة الفن، بينما استمرت عجرفة اليقين ملازمة للعلم وأباطرة السياسة (بكره تشوفوا العجب)، واستمر الاقتصاد العتيق يتأنق في ملابسه الكلاسيكية، مؤكدا انضباط العالم على المنطق العقلي، ولغة الأرقام، ومؤشرات البورصة، وكان آدم سميث يواصل إقناع كارل ماركس بمزايا الرأسمالية، غير عابئ بصرخات الأولاد المتمردين الذين يناهضون «وول ستريت».. إنهم دليل إضافي على عظمة الرأسمالية، وإيمانها العميق بالديموقراطية (بصوت آدم سميث).
(5)
في أجواء الأزمة المالية العالمية الأخيرة (2008 وما بعدها) خرج مارك بونان من القطيع الرأسمالي وسأل في كتابه «الذرة الاجتماعية»: لماذا إذن يزداد الأغنياء ثراء ويزداد الفقراء فقرًا؟، وراج الحديث عن أزمة الرأسمالية، وضرورة حقنها بأمصال الدعم، والعدالة الاجتماعية، ومظهر رعاية الدولة، وهي بضاعة راكدة من بقايا الاشتراكية، ولما كان ماركس قد أفلس ويرقد عاجزا في سرير المرض، فقد استولت الرأسمالية على ما تريد من «تركته»، واستخدمته كمسكنات طارئة، تخفف بها آلام ضحايا أكبر جريمة احتيال في تاريخ البشرية، فيما استمرت في «الدهاليز» عمليات التهرب الضريبي، وواصلت مؤسسات «الأوفشور» كَنْزْ الثروات المسروقة في «الملاذات الآمنة».
(6)
الدهاليز، و«جنة التهرب الضريبي»، كانت بداية معرفتي بكارل ماركس الجديد (الفيلسوف وأستاذ العلوم السياسية في جامعة مونتريال آلان دونو)، ماركس القديم ألماني بلور أفكاره في بريطانيا، وماركس الجديد كندي بلور أفكاره في فرنسا، القديم كان متفائلا بالمستقبل يسعى لتحقيق «الوفرة» في العالم كمدخل للرخاء والاستقرار والشيوعية، والجديد صادم وفاضح ومتشائم، خرج بالاقتصاد من متحف التكلس إلى فضاء «ما بعد الحداثة»، وربط بينه وبين الفلسفة والتعليم والإعلام، واستخدم التحليل الاجتماعي الطازج ليفضح كيف تحولت «الوفرة» إلى إغراق بغيض؟، وكيف يتخفى الوجه القبيح للفساد تحت أقنعة الرفاهية الكاذبة، وغواية الإعلانات الخادعة، وشهوة الاستهلاك المشروع، وفي أحدث كتبه المعنون «مديوكريت» بصق دونو بشجاعة في وجه حضارة اللصوص والمحتالين وأنصاف المتعلمين، وسدنة الرداءة، وخدش القشرة اللامعة عن المعدن الرخيص الذي تسلل ليلوث كل شيء في حياتنا من الدواء والغذاء وحتى الفن والترفيه، مرورا بالأفكار وجوهر العلاقات الإنسانية.
(7)
لم أقرأ «مديوكريت» كاملا بعد، فهو لم يترجم من الفرنسية، والمراجعات التي قرأتها بالإنجليزية محدودة ومبتسرة، لكنها تكفي لكي يشعر هواة المقارنات أن كتاب دونو الجديد هو المعادل العصري لكتاب ماركس الشهير «رأس المال»، وتكفي لكي نشعر أننا (كمصريين ومديوكريت عموما) نعيش كل سطر في هذا الكتاب، إنه كتاب عن حياتنا هنا في مصر، بنفس الدرجة التي تصلح لكل مكان في العالم، إنه ليس مجرد كتاب في الاقتصاد، لكنه مقدمة لانقلاب شامل ضد شياطين الفساد والاحتيال، إنه وثيقة إدانة أخلاقية وحضارية لا تتوقف عند كشف خديعة اللصوص الكبار في النظام المصرفي التي تصدى لها فيلم الأزمة المالية «The Big Short» المرشح لجوائز أوسكار هذا العام، و«ميديوكريت» مصطلح شائع يمكن ترجمته «الرداءة»، أما ترجمته المصرية التي نعرفها جيدا فهي «بين البينين»، أو «نص نص» أو «على ما تفرج»، أو «مشي حالك» أو «سد خانة»، أو حسب تعريفي الخاص «كأن».. كأنه كاتب، وكأنه مذيع، وكأنها مدارس، وكأنها شوارع، وكأنها دولة، وكأننا بشر، وكأنها عيشة، وكأننا نعيش.
وغدا نحاول أكثر...