(1)
سأحدثكم عن مثقف إنجليزي قديم (عاش ومات في القرن 19) اسمه ماتيو أرنولد، ليس لأنه من مؤسسي حملة «أخلاقنا»، وليس إعجاباً بأشعاره وكتاباته المتنوعة، وليس لأنه «راجل برلماني محترم»، ولا بسبب حماسه للدين والتعليم في الإصلاح التربوي، ولكن بسبب انتمائه لثورة 25 يناير، فمنذ قرن ونصف القرن ندد أرنولد بتحرش «أحمد ناموسة» بالعقل الإنساني، وحذر من خطورة «خالِف صالاح» على الأخلاق، ويقال إن أرنولد تحمس ذات ليلة، فطلب مداخلة مع «عم أديب» عن أهمية «الثقافة»، وكان أديب يظن حينذاك أن «الثقافة» تعويذة سحرية اكتشفها الخواجة لتساعد الزمالك في الفوز على الأهلي فسمح له بالمداخلة، ولما كان حديثه بعيدا عن كرة القدم فقد قاطعه 9 مرات ثم أغلق الخط، وفي الدقائق القليلة التي أتيحت له قال أرنولد: إن «الثقافة» هي خلاصة الخبرة الإنسانية والوعي التاريخي، إذا تعاطاها المواطن الجاهل يمكنها (بإذن الله) أن تشفيه من أعراض «الفلول»، وإذا استمر في التعاطي، فسوف يتخلص من متلازمة «عبعاطي»، ويسمو على الغرائز البدائية لحالة «المواطن العكاشي»، وقد ينبت له «عقل كبير»، ويكتسب حصانة ضد تعاويذ ساحر الزمالك الشرير «مورتادا بطن الزير».
(2)
من سوء حظه سمع أرنولد، خطبة الدكتور «عبعال»، فأصيب بتسمم ثقافي وغثيان لغوي، وكانت تداهمه في الليل كوابيس مفزعة يرى فيها موتوسيكلات كثيرة على سجادة حمراء كبيرة، وتطارده كائنات إعلامية بألسنة «مدلدلة» مخيفة، كما كان يعاني في النهار من هلاوس يتعذب فيها بطريقة إلقاء عبعال وأصداء الثرثرة الفارغة تحت القبة، وبعد أقل من دورة تشريعية مات المسكين أرنولد في إبريل 1888م متأثراً بجرعة زائدة من تصريحات «مورتادا»، ومضاعفات «النفخ البرلماني»، وبخاصة وصلة «رأسك على كفيك، والنسيج المتين الذي تزيد الأيام خياطه متانة».!
(3)
كانت بريطانيا تعتبر أرنولد «نور عينيها»، لكنها استغلت تدهور حالته بعد الكوابيس، فانحرفت عن نهج الثورة المجيدة، وأهملت وصاياه عن فوائد الدين والثقافة والأخلاق، ومشت البلاد في الطريق «البطَّال» معتمدة على «القوة» وليس «العقل»، فاحتلت ومارست القتل، واستغلت وتآمرت وأذلت، وتحت شعار «في حب التوابل» تجاوزت الحدود ونهبت الهنود، وقهرت الشعوب والأغيار، وتحولت إلى رأس حربة للظلم والاستعمار، ثم ظهر الفلول (الكارهون لأرنولد وثقافته وثورته) مسلحين بالقوة الغاشمة، فأسسوا «تحالف دعم الإمبراطورية» وطمسوا جرافيتي الثائر الطيب ورفاقه من شارع «مهماد ماهمود»، وسألوا أرنولد في رسالة تهديد على الملأ: «تحب تنضرب فين..؟ في بيتك؟ وللا بيت أبوك؟ وللا بيت مين بالظبط؟»، ثم رددوا الهتافات الفاشية بقوة وعنف دون حياء: أفرم يا سيدي واحنا معاك.. يا مستر خد قرارك، الشعب في انتظارك.
(4)
بعد مأساة أرنولد الشخصية، وانحراف بلده عن العيش والحرية والكرامة الإنسانية، أصبحت أخاف بشدة من أي حديث غامض عن «القوة»، خاصة بعد حبس الثقافة والعقل، وسيطرة «حزب افرم»، وقد زاد خوفي بعد اختراع مفرمة «الجنرال عبعاطي» التي تحول الفيروسات المهلكة إلى «كفتة».. فما بالكم بالإنسان الغلبان؟، وتحول خوفي إلى رعب بعد أن أعلن «الزرد» نظريته الحسابية في الهبر والضرب معا: (الواحد بعشرتلاف) التي أطاح فيها العالم «الفسا..غورثي» بقوانين نيوتن عن تساوي الفعل ورد الفعل، وانتصر للنظرية النسبية في فيلم «العار»: إذا كان الصندوق معانا أدينا بندعمه، وإذا كان ضدنا بنكسعمه«، وهكذا أصبح «الصندوق» هو مبرر استخدام «الكسعمة» والقوة الغاشمة!
أصبَحَ؟
أصبح إيه يا عم؟.. هو ده تمام الصندوق من أيام هتلر، فالمشروعية لم تعد من دين أو أخلاق أو دساتير، أو استجابة لمطالب شعب، بل من حصر الأصوات التي تم تعبئتها في الصندوق، وطالما العداد تحت سيطرة القوة الغاشمة، فمن السهل لهتلر أن يتلاعب بالصندوق ويحوله إلى «إله من العجوة» يستخدمه الفوهرر حسب الهوى، هكذا تم حجب العقل، وازدراء الثقافة، واتخاذ أرنولد قربانا وحرق نصائحه معه، هكذا برر الصندوق لسلطات القوة الغاشمة ارتكاب فظائع النازية والفاشية، كما مهد للطرف المقابل توسيع نطاق الحرب، وإلقاء القنبلة الذرية، وسبي العقول، و«مرمطة» الإنسانية في أسواق النخاسة المعاصرة.
(5)
هذا هو الصندوق (بعينه وغباوته وشكله العكر) الذي جاء ببرلمان عبعال: «المنتخب بإرادة حرة (...) في مناخ آمن وأجواء شفافة شهد لها العالم كله (...) وانتخابات كانت تعبيراً جلياً عن إرادة الشعب العظيم (...) وثورته الوطنية شديدة النقاء التي نحصد ثمارها اليوم بهذه الكوكبة المحترمة من أبناء هذا الوطن، ممثلين لشعبه ومعبرين عن طموحه وآماله»!.
(6)
السيدات والسادة.. شعب بلدنا العظيم.. إننى أعلن أمامكم من خارج قبة عبعال عدم اعترافي بأي حديث عن إرساء النظام الديمقراطى وإعادة بناء مؤسسات الدولة الدستورية، فنحن لانزال «أشلاء»، وأي خطاب غير ذلك لا يزيد على فاصل إعلاني للمجاملة والمنشطات السياسية غير المرخصة، في «جمهورية وش السعد»، فلا «شعبنا العظيم استطاع أن ينتصر للحرية والديمقراطية»، ولا «استطاع أن يستعيد حلمه للمستقبل»، لأنه لايزال أسيراً «لدعاوى الردة ودعاة التخلف».
(7)
لن يعجبني (ولن يعجب أرنولد) هذا الحديث الغريب عن «الثقة الغالية»، والحشود، وعدد الناخبين في صناديق الاستنتخباربات (مافيش خطأ إملائي ولا حاجة)، لأن هذا الحديث قد يصيبني بكوابيس أرنولد، لأنه تكرار (مفقوس) لنفس الخدعة القديمة التي استغلت «اسم الجماهير» و«إرادة الشعب العظيم»، كما استغلت «نزيهة» و«آمنة» و«شفافة» و«أجواء»، لفبركة «كوكبة» ضالة ومضللة، أشعلت قب قرن من الزمان حربين عالميتين لم يخسر فيهما العالم ملايين القتلى وفقط، بل خسر الكثير من عقله وإنسانيته وتحضره، لأنه لم يسمع نصيحة أرنولد، ولا صرخة إيمانويل كانط وهو يطالب «باكري سيف الغزل» بـ«شجاعة التفكير المستقل» بدلا من «وضاعة التلفيق التابع المُذِل» بحجة هتافات الحشود «الخرافية» التي خرجت (في السر طبعا) لانتخاب برلمان «دعم الأشلاء»، ولأن ذلك العالم المفتون بالقوة الغشيمة والكذب المفضوح، لم يفهم سخرية بسمارك من حيلة «الديموقراطية بالنفر» التي تجهر بالإلحاد العقلي، وتمجد «وثنية الصندوق» طالما في مصلحة «القوة الغشيمة»، ففي مداخلة مزدوجة لبسمارك مرة مع خميس، ومرة مع لميس قال: لو كان الصواب مرهونا بزيادة عدد الأصوات المؤيدة عن عدد الأصوات المعارضة، فإن 7 أفسال من أمثال «ميدو ناموسة» ورفاقه الستة، الذين نشروا صورة اجتماعهم في محفل «مورتادا الدكر» يحق لهم أن يعتبروا أنفسهم على صواب، أكثر من عالم جهبذ أو فقيه مجتهد، بل يحق لهم القول إنهم يفهمون أكثر من «الكبير» ذات نفسه.! وأظن أن هذا يتعارض مع حكمة وعلم «طبيب الفلاسفة»... قال ديموقراطية قال!... بِعْد الشر
(8)
حفظ الله مصر وشعبها من كل طامع وفاسد.. وصانها مستقرة وآمنة من كل محتكر وجاحد.
....................................................................................................................................
* المقال تخريفة سيريالية، وأي تشابه بينه وبين الواقع في الأسماء والأحداث، مجرد تأثير سلبي لكوابيس أرنولد، التي تحولت إلى فيروس سياسي، وهذه مشكلة بسيطة لن تضر أحداً، وحتى إذا أضرت فإن جهاز عبدالعاطي سيأخذ الفيروس من «المتضرر» ويديهولوا صباع كفتة يتغذى عليه، وهذا قمة الإعجاز العلمي.. انتظرني في كوابيسك يا «مورتاضرر»...
جمال الجمل
[email protected]