x

محمد المخزنجي تخريم الأدمغة محمد المخزنجي الأربعاء 27-01-2016 21:37


لعلها كانت أجملهم، أنضرهم، وأطيبهم قلبا، ولا شك أنهم كانوا يحبونها لأنها تُحَب، ولأنهم كانوا موقنين أنها تحبهم، ربما أكثر من نفسها المفطورة على براءة الطفولة التى لم تغادرها أبدا، حتى إنها عندما لم يعد لديها غير بضع كلمات تنطقها، كانت نداءات تدليل الأب والأم «بابى. مامى» هى نصف ما تملكه من كلمات، برغم أن من تناديهما لم يعودا موجودين، وكان النصف الآخر مما تبقى فى ذاكرتها من كلمات، كلمة تعبر عن الجوع وأُخرى تعبر عن الألم. فلماذا فعلوا بها ما فعلوه، وقد كانت ملامح الإجرام فى فعلتهم واضحة؟

دون غرابة لافتة

فى زيارة ملكة بريطانيا مع الأسرة وهى فى العشرين

إجرام؟ إنها كلمة كبيرة، مجازفة غيرمحسوبة لمن يعرف أن هناك معضلة كبرى من معضلات التشخيص والعلاج فى الطب النفسى عنوانها «السيكوباتية» Psychopathy، والتى كانوا يترجمونها تخفيفا أو حذرا «الشخصية المضادة للمجتمع»، ثم فصل التصنيف بينهما وأضاف مصطلحا جديدا هو الاعتلال الاجتماعى Sociopaty، لكن هذا الاعتلال وذاك التضاد، كثيرا ما وصلا إلى حد اقتراف الجرائم، ليتعلق السؤال فى فضاء الحيرة: هل المُقتَرِف لجريمة ما، مريض أم مجرم، أم مجرم مريض؟ آذى على الرغم منه، أم آذى واعيا ومدبِّرا للأذى؟ والثابت أنهم آذوها، وكان الأذى شديدا. فمن كان المجرم؟

كان وجهها من تلك الوجوه الآسرة، ثنائية النضارة الصافية والنفس البسيطة، هذا ما تبادر إلى خاطرى عندما رأيت الصور الملتقطة لها قبل أن تُقتل، وهى معادلة أشخاص ما إن تراهم حتى تصير أسير محبتهم، فهم يظلون أطفالا مهما بلغت أعمارهم، فما بالك بأن يكونوا جميلين أيضا، وقد كانت «روز مارى» من هؤلاء، لهذا جعلتنى أندفع فى البحث عن كنه الإجرام والمجرمين فى دنيا البشر، خاصة هؤلاء المختفين فى قصتها، التى لم يعرف عنها العالم شيئا، تقريبا، على امتداد عشرات السنين من الكتمان المُشدد، برغم أنها سليلة آل كيندى، والشقيقة التالية للرئيس الأمريكى الأشهر المغدور «جون كيندى»، وربما أن هذا الكتمان شددته إلى هذا الحد أنها سليلة هذا المحتد. اختفت روز الجميلة عن الأنظار وهى فى أوج الثالثة والعشرين عام 1941، ولم يظهر اسمها ثانية إلا قرب وفاتها عام 2005. وبعد وفاتها بتسع سنوات، أصدر ابن شقيقتها «تيموثى شرايفر» رئيس اللجنة الأولمبية لذوى القدرات الخاصة، كتابًا عن هذه الرياضات وأبطالها من المُعاقين تحت عنوان «ممتلئون بالحياة» Fully Alive، خصص به فصلا لخالته «روز مارى كيندى»، قال فيه إنها وُلدت بإعاقة ذهنية نتيجة حرمان مخها من الأكسجين أثناء ولادتها، وحاولت الأسرة إخفاء حالتها محدودة الأعراض عن الأصدقاء، بل عن روز مارى نفسها، فأدخلوها مدرسة إخوتها، وكانت تشارك فى النشاطات الرياضية والاجتماعية دون أن تبدو فى سلوكها غرابة لافتة. لكن فى الثالثة والعشرين أخذها والدها جوزيف كيندى، من وراء ظهر العائلة، لتخضع لعملية فصل (أو بَضْع أو قطع) مقدمة فص المخ الجبهى lobotomy، ونتج عن ذلك أنها لم تعد قادرة أن تتكلم أو تتحرك أو تعتنى بنفسها فى أبسط الأمور. ومن المُروِّع والمُفجِع أن والدها الذى أخذها إلى هذا المصير، والذى انتهى بها إلى الإيداع فى مؤسسة رعاية داخلية كاثوليكية، لم يزُرها لأكثر من عشرين عاما، بل ظل يُخفى عن إخوتها عنوان المكان الذى دُفِنت فيه حية! فما الذى حدث للوصول إلى هذه الملابسات الشنيعة، التى انكشف سرها أخيرا، وصارت حديث الصحافة والإعلام، وموضوع أكثر من كتاب صدر بالولايات المتحدة نهاية العام الفائت2015؟

سفير أمريكا فى بريطاينا

السفير الأمريكى وابنته وأين ذهب كل ذلك الحب؟

قبل بوادر الحرب العالمية الثانية عُيِّن جوزيف كيندى والد روز مارى سفيرًا للولايات المتحدة فى بريطانيا، فانتقلت معه الأسرة إلى لندن، وهناك افتقدت روز ما ألفته من حياة مع أقرانها داخل الأسرة، فأظهرت بعض «الغضب» وبعض «الاحتجاج»، وتحدث والدها عام 1941 مع عدد من الأطباء حول حالتها التى تفاقمت مع الوقت، مُشتكيا من أنها «تلوح بقبضتها مُهدِّدة فى وجهه، وتُبدِى شغفًا بالصبيان»! (وكأن البنات لم يُخلَقْن ليحببن الصبيان ويحبهن الصبيان!). واقترح عليه من اقترح، لتهدئتها والقضاء الحاسم على الخطر المُحتمل فى فتاة جميلة متوهجة وبريئة، أن تُجرَى لها عملية فصل للفص الجبهى فى المخ، كانت رائجة فى الغرب آنذاك، وكان نجمها الأكبر طبيبا أمريكيا يُدعَى «والتر فريمان» Walter Freeman، فقاد الأب ابنته إلى هذا الطبيب النجم، ومن المؤكد أنه لم يُخبر روزمارى بما سيحدث لها، وإلا كانت أظهرت له ولغيره، ذلك العنف الحقيقى الذى يتفجَّر من أصحاب الوجوه والنفوس البريئة حال يشعرون بالغدر، وقد غُدِر بها فى مركز سانت إليزابيث بمستشفى واشنطن دى سى يومها، أوهمها الدكتور فريمان بأنه سيُجرى لها «مجرد فحص»، فتمددت فى سرير الكشف طائعة وديعة، ولم تكن تعرف أن ما يثبتونه على جانبى جبينها وتشعر ببرودته ليس إلا قطبا جهاز الصدمات الكهربية لإحداث نوبة صرعية، ضغطة زر ومرقت الشحنة الكهربية عبر مخها، صرخت صرخة نوبة الصرع الكبرى فاقدة الوعى، وراح جسدها ينتفض متشنجا تلك التشنجات العنيفة، فسارعوا إلى حماية لسانها من أن تعضه أسنانها فى أعقاب الصرخة مع الانطباق الشديد للفكين، ثبَّتوا حوضها وكبّلوا ذراعيها وساقيها، حتى لا تنخلع المفاصل، ثوانٍ وخمدت التشنجات، ارتخت روز هامدةً غائمة الوعى، وفى هذه الحال التى تدوم لدقائق قليلة، أجرى النجم فريمان عمليته الرهيبة، التى سبق أن جربها لمئات المرات فى مئات البشر!.

«المنسية» تنكشف أسرار مأساتها بعد ستين سنة

وصف «تيموثى شراير» فى كتابه ما حدث لخالته فى تلك العملية «البشعة»، وكيف أن الجراح «أخذ يُمزِّق مخها وهى شبه واعية، ولم يتوقف إلا بعد أن تأكد من انعدام قدرتها على التواصل»، وهذا يطابق الحقيقة المرعبة التى كانت تحدث بالفعل، والتى دعاها مبتكرها فريمان «قطع مقدمة الفص الجبهى من خلال محجر العين»، مزهوًّا بأنها «دون تخدير»، ودون حاجة لإحداث ثقب كبير فى عظام الجمجمة، بينما ظلت الغاية واحدة، وهى: تقطيع تلك الوصلات العصبية فى لحاء مقدمة الفص الجبهى التى توصله بأجزاء المخ الأخرى، والتى أرجعوا إليها مسؤولية إحداث الأمراض العقلية وارتكاب الجرائم! أما أدوات «الجراحة» التى كان فريمان يستخدمها فى عملياته، فلم تكن إلا إزميلا رفيعا، ومطرقة، يُستخدمان لتكسير الثلج فى المطابخ والمقاصف. كان يُدخِل هذا الإزميل فى المحجر تحت الجفن العلوى وفوق كرة العين، ثم يطرق كعب الإزميل ليندفع ويفتح طريقا عبر العظام الرقيقة التى تفصل بين المخ والعين فى هذه المنطقة، وما إن «يشعر» بأن إزميله قد غاص فى مقدمة الفص الجبهى للمخ، حتى يأخذ فى تحريكه، لتقطيع وصلات الجنوح، جنونا كان أو إجراما، فالخلط بين الأمرين كان شائعًا، وقد روَّج «وولتر فريمان» لمقولة إن غياب العلاج الفعال للمجرمين فى المؤسسات العقابية جعل من عمليات استئصال الفصوص الجبهية أداة مفيدة لتحرير عدد كبير منهم، وإعادتهم إلى الحياة الطبيعية. ولم تكن تلك الحياة «الطبيعية» التى يعيدهم إليها، سوى عجز ليس فقط عن ارتكاب الجرائم، بل عن مجرد أن يأكلوا بأنفسهم أو يُنظفوا أنفسهم أو يتواصلوا مع الآخرين، فهم لم يعودوا بعد عملياته بشرًا، بل شبه نباتات هامدة، لا حس، لا وعى، ولا حركة!

الذهاب إلى الفخ

الدكتور فريمان فى وضع خيلائى بجوار مخطط عمليته الوحشية

«لقد نجحت العملية»! لابد أن فريمان ومساعده الجراح «جيمس وات»ــ الذى انقلب عليه فيما بعد ــ قالاها، وقد كان مقياس النجاح فى تلك العمليات لديهما أنها «تُهدِّئ» هياج واندفاعات المرضى والمجرمين، وقد كانت بالفعل تفعل، ولكنها لم تكن تهدئةً بل إخمادًا، فهى تُفرِغ الإنسان مما يميزه كإنسان، وتحيله إلى خواءِ ميِّتٍ حى، وهذا ما صارت إليه «روز مارى جوزيف كيندى»، بعد أن كانت فى روعة وريعان الثالثة والعشرين. القصة مرعبة على مستوى الضحية، كما على مستوى رد فعل والدها، والذى لا أستطيع أن ألعنه كما لعنتُ وألعن الطبيب فريمان. فهذا الأب التاعِس وقع فى مصيدة تزمته، وإذعانه للمظاهر الكاذبة فى عصره، وداخل شريحته الاجتماعية من الصفوة الأكثر ثراء ونفوذًا فى الولايات المتحدة. وما كان تصرفه الذى يبدو شديد القسوة وموات القلب تجاه ابنته، إلا شعورا ساحقا بالذنب دفع به فى عكس الاتجاه المنطقى للتكفير عن الذنوب، وهى ظاهرة يعرف نظيرها طب نفس الحروب وتقع ضمن ما يسمى «الهلوسة الزائفة»، وتصف حالة بعض الجنود فى الحرب عندما تصير نيران المعارك جحيما، فهم بدلا من الابتعاد عن خطوط العدو، يندفعون نحوها ذاهلين، فيقعون فى مرمى النيران المُعادية أو فى الأسر. وهذا ما أرى أن جوزيف كيندى الأب قد وقع فيه بعدما هاله مصير الموتى الأحياء الذى دفع بابنته إليه، وأعتقد أنها كانت أحب بناته إليه بدليل فرط عنفه الانفعالى بشأنها من ناحية، ومن ناحية أخرى ما تنطق به صور العائلة التى شاهدتُ بعضًا منها، ورأيت الأب فيها يختص روز الصبية ثم الشابة بأن تكون إلى جواره دائما، يتركها تتأبط ذراعه أو يتأبط ذراعها، بينما تلين ملامحه التى كانت دائما صارمة حادة. كان يحبها وكانت تحبه، ولم يكن رد فعله العنيف ذاك إلا حبا كبيرا معكوسا تحول إلى عذاب أليم، لهذا أتفهم تأثير ذلك الشعور العميق بالذنب الذى دفع بالرجل فى الاتجاه العكسى، فبدلا من الاعتذار عما اقترفه فى حقها بإغداق مزيد من العطف والحنو عليها، اندفع لاشعوريًّا يهرب فى الاتجاه الخطأ، غارقًا فى الإحساس بالعجز المُطلَق عن التكفير عما ارتكبه من ذنب كبير فى حقها، وهو ذنب كبير بالفعل، لكنها النفس الهشة لرجل مهم، وإنها لمفارقات النفوس.

كان يجرى عملياته فى المخ عبر العين بأزميل ومطرقة

أما الذى لا أستطيع التماس أى عذر له، فهو ذلك الدكتور فريمان، فهو لم يكن جرَّاح مخ، بل لم يكن جراحًا على الإطلاق، كان خليطا من طبيب أعصاب وطبيب نفسى محدود المعرفة ولو بمحدودية المعرفة فى زمنه، لكنه فى أشهر التفسيرات النفسية لإقدامه على هذه المغامرة الوحشية فى أمخاخ ضِعاف الناس، كان مدفوعا بطموحٍ قاهرٍ لتعويض نقصه أمام صورة جده الذى كان رائدا لجراحة المخ فى أمريكا ورئيسا للجمعية الطبية الأمريكية، ولتعويض هذا النقص سلك فريمان الطريق المُختصر لتضخيم الذات، فزعم أو تقمص دور المكتشف لجراحة مخ غير مسبوقة فى علاج العقول، تستغرق ثلاث دقائق بدون تخدير، وأدواتها مجرد إزميل تكسير ثلج يشبه المفك، ومطرقة، حولهما فيما بعد إلى «اختراع» يُدمَغ من وجهيه بتوقيعه، أسماه orbitoclast أو «المُفتِّت من خلال محجر العين». وبهوسه التضخمى كان يعمل بإزميله هذا فى العماء، فيُدمِّر ما يدمر من مراكز الوعى والحركة والحس، ويتبجح مدعيًا نجاح غاراته الإجرامية تلك على أمخاخ المساكين،لأنهم «بعدها يهدأون». ولم يقل إنه هدوء الموت أو ما يشبه الموت. وهذا ما فعله بالجميلة «روز مارى جوزيف كيندى».

تعويض وحشى عن الشعور بالنقص

روز فى صباها مع الأسرة أعلى يسار الصورة والشقيق جون كيندى أعلى فى الوسط

لم تكن مأساة ما حدث لروز مارى كيندى هى التى أوقفت الدكتور فريمان عن التمادى فى تعويض عقدة نقصه بالإجرام فى الطب، فكتمان مأساتها أنقذه من الافتضاح المدوى والمبكر، كما أن تقاليد المجتمع الطبى الأمريكى الخيلائى فى ذلك الوقت، كما كل الأوقات الأمريكية تقريبا، لم تكن تسمح لطبيب أن ينتقد عمل «زميل» له فى تلك المهنة «المُحصَّنة»! ثم إن فريمان فرض أسطورته على المجتمع، بثقة المجنون فى جنونه، أو الجاهل فى جهله، أو المحتال فى كُفتته، مُقنِعا العامة وكثيرًا من الخاصة الذين هم فى جوهرهم مجرد عامة، أنه وجد طريقةً مُلهمة، بسيطة وناجحة وحاسمة، لعلاج أمراض العقول التى كان الطب يشعر بالعجز حيالها، كما أنه أجاد تسخير الصحافة لتمجيد انتصاراته القاتلة بالمبالغة والأكاذيب، حتى إن جريدة «واشنطن ستار» وصفت جراحاته السافلة بأنها «أحد أعظم ابتكارات الجراحة فى هذا الجيل»، وأسمت النيويورك تايمز عملياته: «جراحة الروح»، ونسبت إليها «صناعة التاريخ»!!! هكذا صار المأفون نجما أمريكيا عاليا يصعُب المساس به، وتمادى فى فُجرِه بأن صار يطوف بالأمة الأمريكية فى سيارة أسماها «سيارة قطع فص المخ» Lobotomobile، «لوبوتوموبيل» على وزن «أوتوموبيل» التى كانت تسمية شائعة للسيارات آنذاك، وكان يهبط من سيارته تلك مُكللًا بزهوه الهوسى، ومُحاطًا بالانبهار الهستيرى الأمريكى، ليُجرى عملياته الإجرامية فى أماكن خارج غرف العمليات، بل خارج المستشفيات، جامعا حوله الأطباء الصغار لتدريبهم بأداءٍ مسرحيٍّ فاقع على طريقته، وغير الأطباء ليصفقوا بجنون لجنونه!

أدوات عملية فريمان فى المخ سجلها كاختراع وما هى إلا أزميل ومطرقة تكسير الثلج

ولأن الأمور لا تبقى على ما هى عليه طالما تمادت فيما صارت عليه، فقد أخذ نجم فريمان يهوى مُحترقا. وأتته أولى اللطمات من زميله فى إجراء تلك الخزعبلات الدكتور «جيمس وات»، فأعلن انسحابه من تلك العمليات التى وصفها أخيرًا بأنها «وحشية»، أما القاصمة فكانت موت المريضة هيلين مورتسون عام 1967 بنزيف دماغى، فيما كان فريمان يجرى لها عمليته تلك للمرة الثالثة! فسُحبت منه رخصة ممارسة الطب، ومع ذلك ظل بوقاحة

روز على كرسى متحرك بلا وعى ولا حركة طوال ستين عاماً

المهووس بتضخم ذاته، يطوف بسيارته «اللوبوتوموبيل» ليزور مرضاه الذين حقق لهم معجزة السكون! ثم أخذت الروائح الكريهة لكوارث عملياته تفوح، وكان أفظعها عملية أجراها لأصغر من خضعوا لجنونه، ولد عمره 12 عامًا اسمه «هاوارد دوللى» أصرَّت زوجة أبيه أن «سلوكه يستدعى إجراء العملية بشكل ضرورى لأنه كان يمتنع عن الذهاب إلى النوم»، فنخور فريمان دماغه ليتحول إلى نائم أبدا، مُطيحًا بإنسانية صباه وشبابه، وكبر هذا الولد، مُستعيدا بعد أكثر من ثلاثين عاما أقل ما يمكن من كيانه الحسى والحركى والإدراكى، بفعل الآليات التعويضية البطيئة للمخ مع النضوج، ليصير موضوع كتاب شديد الأسى، يفضح المزيد من آثام هذا الطبيب الأفَّاق المتوحش. الذى مات بالسرطان عام 1972. وهو وإن كان آخر أشهر من زعموا تقطيع أجزاء من الجسد لإصلاح النفوس، إلا أنه لم يكن أولهم، ولعله لن يكون آخرهم، فتخريم العقول لم يتوقف، لهذا سأعود إليه، إلى نظائره وبدائله، ورسائله، خاصة رسائله..

لغويًّا ونفسيًّا وحياتيًّا

نعم، عبر الاستغراب والاستعجاب والدهشة، وبينما أتعقب مثل هذه الحكايات، تلوح لى رسائل تتجاوز نطاق حالاتها المُحدَّدة التى تنبع منها، وتُسلِّط أضواءً كاشفةً على أحوالٍ مُناظِرة أو مشابِهة فى حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والروحية، تبدو أبعد ما تكون عن موضوع هذه الحكايات، لكنها أقرب ما تكون إلى مغزاها، دوافعها، واقتراحات الإصلاح لما يستوجب الإصلاح. ومن الصُّدَف المُدهشة، أننى عندما شرعت فى تأصيل فصاحة كلمة «تخريم» فى عنوان هذا المقال، وجدت فى الكلمة معنىً آخر يُضاف إلى المعنى الحرفى الذى يشير إلى «حفر الثقوب» فى الأدمغة لإجراء تلك العمليات، فخَرَمَ الشىء أى شَقَّه، ومن ثم يكون «التخريم» شقًّا لطريق مُختصَرة، استسهالا واستعجالا. وهنا عين الكوارث!

فى مأساة روز مارى كيندى، كان الدافع الذى أوقع بأبيها فيما ارتكب من ذنب كبير هو استعجاله للعثور على وسيلة فورية تزيح ما رآه كارثة مُنذِرة فى جمالها الناضج وبساطة إدراكها، ثم كان تزيين خرافة بساطة ونجاعة عمليات فريمان «المُهدئة» هو التشجيع الذى دعاه لاستسهالها وقبولها، فحلَّ عليه الخراب، خراب حياة ابنته وخراب روحه. أما المجرم فريمان، فقد كان استعجال تعويض النقص عنده بالحصول على نصرٍ شخصىٍّ طبىٍّ سريع، ثم استسهال خطف هذا النصر بعملية بشعة لا أساس علمىّ لها ولا حكمة إنسانية فيها ولا تَحسُّب لعواقبها على حياة من يقعون فى مصيدتها، كل ذلك كانت محصلته تعاسة آلاف ضحايا هذه العملية، وإدانة وإشانة الجانى وخسرانه المبين. فهل نتأمل حياتنا، أفرادًا ومجتمعًا ودولة، موالين ومُعارضين بالمناسبة، وندرك أن التخريم استعجالًا واستسهالًا، فى كل مناحى الحياة، كما فى الأدمغةِ، لعنةٌ ينبغى التطهر منها لمن يروم النهوض، وهذا ليس مجازًا لغويًّا، بل حقيقة عضوية من أحدث ما توصلت إليه أبحاث المخ والسلوك، ولها ـ فى الخميس بعد القادم ـ وقفة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية