بعد أيام من فرض حظر التجوال الممتد فعلياً من المغرب حتى شروق اليوم التالى، شعر أفراد هذه الأسرة المرحة بالكآبة. شقتهم مزودة بالمؤن الاحتياطية من ماء وطعام وأدوية طوارئ إضافة لوسائل إذكاء الوقت بالقراءة ومشاهدة التليفزيون والفيديو والتجوال عبر الإنترنت، ناهيك عن التليفون الأرضى والتليفونات المحمولة الخاصة بكلٍ منهم. لكن شيئاً ما ظل يُشعرهم بحياة السجن. كأنهم فى زنزانة متسعة إلى حد ما، لكنها زنزانة؟ وفى هذه الزنزانة بعد أيام معدودة اكتشف كل منهم أن وزنه يزيد بشكل ملحوظ، أجسامهم تثقل والوقت يتثاقل وكل وسائل التسلية والتسرية لا تخفف عنهم. ثم إن أصوات إطلاق النار والتفجيرات تتناهى إلى أسماعهم فتتداعى إلى أذهانهم شتى الصور الدموية وعمليات القنص والاغتيال.
صرحوا لبعضهم البعض بأشكال مختلفة عن خوف كل منهم من الانتقال لاشعورياً من حالة الكآبة إلى الاكتئاب. ومن بين اقتراحاتهم المختلفة للوقاية من السقوط فى فخ السمنة وبئر الاكتئاب، فاز اقتراح والدهم الذى كان بطلاً رياضياً فى شبابه بالمداومة على التمارين السويدية فى كل ركن وكل وقت متاح. بدأ كل منهم ينفذ ذلك بطريقته، وسرعان ما سادت طريقة البنت والولدين المتمثلة فى تمارين (إيروبك) إيقاعية لا تتطلب مساحات فسيحة. فى البداية كانوا يؤدونها على إيقاع راقص لموسيقى عالية يذيعها أحدهم وينضوى تحت إيقاعها الجميع حتى الأب والأم وإن بمرونة أقل، ثم صارت التمارين غير مرتبطة بتجمعهم ولا بإعلاء صوت أى موسيقى.
راح كل منهم يدمج هذه التمارين بموسيقى داخلية ترتبط بكل لحظة مواتية يمكنهم تأديتها خلالها. تمارين راقصة فى الصباح أثناء غسل الوجه والأسنان، أثناء متابعة الأوراق التى تخرج من الطابعة، أثناء الدقائق القليلة التى يغلى فيها الماء لعمل الشاى والقهوة، حين إعداد السفرة للغداء، وعندما يعنُّ لأحدهم مشاهدة سريعة للتليفزيون وهو واقف. بل كان منهم من يؤدى تمارينه هذه وهو جالس، وحتى فى السرير قبيل النوم وفى أعقاب الصحو.
بدا البيت كله كأنه يرقص، يرقص كل الوقت، فوق أصوات التفجيرات وطلقات القنص والأخبار المقبضة وساعات حظر التجوال الممتدة. ومن المرجح أن هذا التحول فى هذه الشقة الكائنة فى الطابق الرابع، صار مرصوداً بطريقة ما من أحد الأبنية المقابلة رغم أن أقرب بناية مقابلة لا تسمح برؤية ما يحدث من وراء زجاج الواجهة والنوافذ بالعين المجردة. ومن المؤكد أن عيناً مجردة لم تكن هى التى صوَّبت سلاحاً غير عادى، ليصيب زاوية محددة من الواجهة الزجاجية ويخترقها لتستقر طلقته الحية وسط شاشة التليفزيون، الذى كانت الأم تشاهده مؤديةً تمارينها وهى جالسة تلعب بذراعيها «مد. ثنى. مد. ثنى» وتميل بكتفيها «شمال، يمين. شمال، يمين».
كانت الأم تتابع برنامجاً عن الطهى عندما أصابت الطلقة بطن «الشيف»، مُبعثرةً فى طريقها أوعية الصوص وزجاجات التوابل، مُطيحةً بطاسة القلى، ومُطفئةً النور فى المطبخ الذى تلاشى فى ظلمة مباغتة. لم يتبق منه غير هشيم زجاج معتم يتصاعد من مكانه خيط دخان أبيض يفوح برائحة بلاستيك محترق. هذا فعل قناص ببندقية مزودة بتليسكوب يتمركز فى نافذة عالية أو فوق سطح برج من الأبراج السكنية المقابلة. بطلقة واحدة أطفأ كل الموسيقى التى فى الدواخل، وأخمد كل الحركة الموَقَّعة التى كان يترنم بإيقاعها هذا البيت الذى جمَّدت الطلقة سكانه على مشهد صارخ المفارقة، فبينما كانت عيونهم المتسعة وملامحهم المتشنجة تنم عن الرعب والمُباغتة، بدت أذرعهم المفتوحة أو الممدودة فى تناوب، وأقدامهم المرتفع بعضها عن الأرض، وخصورهم المائلة، بدت جميعاً.. تضج بنشوة الرقص!