x

د. محمد المخزنجي يكتب: أبيض فى أبيض

الخميس 30-07-2015 11:24 | كتب: محمد المخزنجي |
أبيض فى أبيض أبيض فى أبيض تصوير : اخبار

جاءوا بالرجل رصين الملامح فى حالة هياج، وكان بملابسه الداخلية البيضاء ويرتدى حذاءً أبيض على جورب أبيض وعلى صدره كانت تتدلى حتى خاصرته متأرجحة على إيقاع هياجه رابطة عنق بيضاء. لملم من أحضروه ما كان خلعه فى نوبة هياجه بأحد الميادين الصغيرة بالجزء الهادئ من شارع الحجاز، حيث رجَّح البعض أنه هناك يسكن. بدلة ناصعة البياض وبلوفر أبيض سكرى وقميص أبيض كذلك. وقبل تحرِّى قصته التى أخذنا نلملم أطرافها من طرطشات كلامه وشذرات ما باح به من أحضروه، كان يردد بتكرار مرتفع الصوت ومحتقن الأسارير: «يتفضلوا يقتلونى أنا. أنا اللى ضدهم مش الحداشر اللى قتلوهم بالغدر والقنص. يقتلونى أنا. آ أنا».

فى تلك الأيام الهمجية من ناحية، والهستيرية من الناحية الأخرى، كان عسيراً الوصول إلى الحقائق المؤكدة فى كل ما يُحكى، وكان الرجل الذى يزعم أنه مُستهدَف بعد ورود اسمه فى القوائم السوداء على المواقع الإخوانية لمعارضته العلنية لهم وتأييده لإزاحة حكمهم، يتوقع أن يغتالوه برصاصة قناصٍ متوارٍ فى مكان ما على جانب الطرق المعتادة التى يمر بها كل يوم من بيته إلى مكتبه. ولم يثبت فى الواقع أن له أى مكتب فى أى مكان، كما أنه لم يكن صحفياً أو إعلامياً أو ضابط شرطة أو عضو محكمة ممن كانت هذه القوائم تتربص بهم. وعلى الأغلب كان مجرد كاره للإخوان وحكمهم بينه وبين نفسه، إذ تبين أنه يعيش وحده فى فيلا قديمة من فيلات هذا الركن الهادئ بشارع الحجاز المحاط بشوارع وادى النيل وشهاب ولبنان فى المهندسين، ويبدو أنه قرأ اسمه الوارد بالخطأ أو بتشابه الأسماء فى إحدى هذه القوائم التى شاعت على الإنترنت فراح يتحضَّر بما ظن أنه يوافر له فرصة للنجاة بعد تلقيه للطلقة الغادرة التى يتوقعها: ثياب كلها بيضاء لتشير بتحديد ووضوح إلى مكان الإصابة عبر بقعة الدم الحمراء التى تتبدَّى جليةً على الأبيض، فتيسر على من سيهرعون إليه سد فتحة النزف، وتُسهِّل على الأطباء تعقب مسار الرصاصة لاستخراجها وإنقاذ حياته!

«إن للجنون منطقاً» عبارة متواترة يرددها من لهم خبرة بالمجانين، لكن الرجل رغم ما يلوح جنوناً فى قصته كلها، وبمنطق القصة الذى يبدو جنونياً يتجاوز الأوهام والضلالات والهلاوس، كان يضع يده على حقيقة سجلتها محاضر الشرطة والنيابة، فهناك أحد عشر شخصاً ممن كانوا يرتدون ثياباً كلها بيضاء، حتى فى الشتاء كما شأن صاحبنا، أطلق عليهم الرصاص قناصة مجهولون، تم إنقاذ تسعة منهم وقضى شخصان، وقد صرح أربعة من الناجين التسعة، فيما نقلته عنهم لقاءات صحفية منشورة، بأنهم كانوا يتعمدون ارتداء ثياب كلها بيضاء، لتوضح أماكن الإصابة وتيسر عمليات إنقاذهم من الموت إذا أُطلق عليهم الرصاص. أما مواقفهم السياسية ووجود تهديدات محددة لهم من الإخوان أو غيرهم، فقد كانت متضاربة النتائج.

الرجل الذى أمكن السيطرة على هياجه بالعقاقير المهدئة وجلسات الطمأنة النفسية، ورغم أنه صار يتردد كثيراً قبل أن يخوض فى حديث الملابس البيضاء والقنص والأحد عشر مصاباً بطلقات مجهولة، لم يتخل عن قناعته بأن هؤلاء الأحد عشر شخصاً ذهبوا ضحايا عِوضاً عنه، أخطأهم المتربصون الذين حسبوا أن كلاً ممن صوبوا إليه سلاحهم كان هو، هو من يُراد اغتياله لمعارضتهم. لكنه وهو يتشبث بهذه الحكاية ذات المنطق، كان خافت الصوت هادئاً، ويرتدى ملابسه الكاملة، التى.. لم تعد بيضاء!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية