x

د. محمد المخزنجى يكتب: الملوية والسلطة الأبوية

الجمعة 18-09-2015 09:10 | كتب: اخبار |
اللقاء الأول بين الباحث الشاب جيمس مارشال والعالِم الكهل روبن وارن علاقة علمية سوية تكتنز وعدا بثورة تشخيصية وعلاجية لمعضلة فى الطب اللقاء الأول بين الباحث الشاب جيمس مارشال والعالِم الكهل روبن وارن علاقة علمية سوية تكتنز وعدا بثورة تشخيصية وعلاجية لمعضلة فى الطب تصوير : اخبار

«كان الجميع يقفون ضدى، لكننى كنت أعرف أننى على صواب»، يعلق الدكتور بارى مارشال عام 1998 على التصرف «الجنونى» الذى أقدم عليه عام 1984 ليثبت صحة أبحاثه برغم توقفها أمام عائق لم يقنعه بخطأ ما توصل إليه. وكان ما توصل إليه يصعب تصديقه من أغلب الأطباء المعالجين والباحثين فى مجال «قرحة المعدة»، فهو يقول بأنه توصل إلى أن سبب حدوث قرحة المعدة نوع من البكتريا نجح فى عزله من عينات مأخوذه من مصابين بالمرض، بينما الاتجاه الغالب للمعارضين كان يرفض أى احتمال لقدرة البكتيريا على العيش فى الوسط الحمضى الفتاك للمعدة، برغم أن الدكتور مارشال كان قد نجح فى عزل نوع منها سماه مع أستاذه وزميله فى البحث: البكتيريا «الملوية البوابية» ـhelicobacter-pylori- حصل عليه من عينات مأخوذة من مَعِدات مصابين بالقرحة، إلا أنه لم ينجح فى إصابة فئران التجارب المسماة خنازير غينيا guinea pig بقرحة المعدة عندما أدخل إلى جوفها هذه البكتيريا.

ابتلع طبقا يعج بالملوية

أُبوَّة مُحبة وبنوة ممتنة هذا ما توضحه الصورة وهى حقيقة تمتد من العلاقة العلمية إلى آفاق النجاح البشرى الخلاق الذى أحدث ثورة فى التشخيص والعلاج

وحتى يثبت مارشال أن اعتقاده صحيح، وأن ما ينطبق على البشر لاينطبق بتمامه على هذه الحيوانات المعملية، فيما لم يكن مسموحا له بالحصول على متطوعين من البشر لإثبات نتيجة بحثه، فقد قام بعد أن أخضع نفسه لتحليل عينات تثبت خلو معدته السليمة من أى جراثيم، بابتلاع طبق معملى من أطباق «بتري» يعج بالبكتيريا الملوية البوابية التى عزلها من جوف مريض بقرحة المعدة، وكان لِما أقدَم عليه دوى هائل فى الأوساط الطبية والإعلام. اعتبره الجميع مجنونا، لكنه وقد بدأت تظهر عليه أعراض قرحة المعدة بعد عدة أيام، ومع استغاثات زوجته بألَّا يترك نفسه لمزيد من المضاعفات يمكن أن تعصف بصحته وتودى بحياته، أخذ فى تناول مضادات حيوية تعالج التهاب المعدة والقرحة الناشئين، وكان ذلك علاجا غير مسبوق لقرحة المعدة، أثبت نجاحه، وأحدث ثورة تاريخية فى مفهوم أسباب حدوث قرحة المعدة وطرق علاجها. لكن نجاح هذه الثورة لم يُفجِّرها فقط تصرفه الجنونى، فقد لزم لتأييد هذه الثورة مرور أكثر من ستة عشر عاما من تدقيق البحث، ومراجعة نتائجه، وتكرار التجارب والنتائج المعملية، وتقييم كل ذلك فى أربعة أرجاء الدنيا، وحتى مع استقرار الاعتراف الواسع بهذه الثورة فى عالم الطب، كان لابد من مرور سبعة أعوام إضافية لحصول الدكتور «بارى جيمس مارشال» على جائزة نوبل عام 2005 فى الطب، مناصفة مع زميله وأستاذه ومواطنه الأسترالى وأبيه الروحى الدكتور«روبن وارن»، لاكتشافهما الميكروب المسبب لالتهاب وقرحة المعدة، وفتْح باب غير مسبوق لتشخيص دقيق وعلاج جذرى لهذا الداء الذى أنهك ملايين البشر عبر العالم. فما شأن شريكه العجوز فى الحصول على هذه الجائزة؟

الأب العلمى

آلام قرحة المعدة التى ظلت تكوى مرضاها اكتشف العالِمان أن سببها جرثومى فغيرا طرق تشخيصها وعلاجها فى تاريخ الطب ضد إنكار استمر سبعة عشر عاما

عام 1975 حصل طالب الطب الشاب بارى جيمس مارشال وهو فى الرابعة والعشرين من عمره على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة أستراليا الغربية، وبعد أن أمضى فترة التدريب العام للخريجين الجدد، ثم فترة النيابة كطبيب مقيم، سجَّل لدرجة الزمالة فى تخصص الأمراض الباطنية بمستشفى بيرث الملكى عام 1979، وفى هذا المستشفى الجامعى التقى بعالِم أصول الأمراض الذى يكبره كثيرا «روبن وارن» المعنى فى أبحاثه باحتمال وجود سبب ميكروبى لالتهاب المعدة، وكان يحاول بدأب اصطياد هذا الميكروب، فى وقت لم يكن هناك كثيرون فى العالم يصدقون صواب الذهاب فى هذا الطريق، لأنهم كانوا يُرجِعون التهاب المعدة وقرحتها لأسباب نفس ـ جسمية، وغذائية، وأحيانا يعترفون بأنها ترجع لسبب «غير معروف»، ومن ثم كانوا يتعاملون مع التهاب المعدة وقرحتها بعلاجات نفسية مُهدِّئة وأدوية مضادة للأعراض: التوتر، الحموضة، الألم، سوء الهضم، بل كانت هناك مباريات بين الجراحين العالميين الكِبار لاستئصال هذه القُرَح بتكنيكات حملت أسماء بعضهم وذاع صيتها فى أنحاء العالم. فمن كان يصدق هذا العالِم العجوز «وارن»؟

البركة فى الشباب

البركة حقا فى الشباب، لكن لحصول هذه البركة، لابد من وجود شاب مِقدام وجاد، مُخلِص لعمله ومُحلِّق فى طموحه، ومؤمن بخبرة وحكمة كبير يسبقه، ويُشرِّفه البناء على مُنْجَز هذا الكبير بامتنان وثقة، وفى المقابِل، لابد من وجود كبير لديه روح أُبوَّة صافية ومعطاءة وغِنى روحى يعبر عن نفسه بدفع شاب مجتهد وخلاق ليس للأمام فقط، بل ليسبقه مع الوقت والجهد، إيمانا بأن لكل إنسان حدودا وطاقة، وأن المُنجَز البشرى يتطلب تواصل أجيال تلو أجيال، أبناء فى العلم والإبداع يكملون رحلة الآباء، لا كبار يتمترسون ويتغطرسون وراء أعمارهم ويتعاملون مع ماحصَّلوه كاستثمار خاص لايُنازعهم فيه أحد، ولاصِغار جاحدين ينكرون فضل سابقيهم ومُعلميهم.

قدم الدكتور «وارن» لابنه العلمى فكرته، وراح الابن وقد آمن بصواب الفكرة يعمل عليها معه، ولابد أن الأب ظل يتابع فتاه وهو يتقدم بالفكرة، لتصير حقيقة كاسحة وواضحة تطيح بما سبقها من افتراضات بلا دليل، ثم إن اكتشاف هذه البكتيريا«الملوية البوابية» لم يقتصر على تحديد سبب ميكروبى لمرض لم يُعدَّه أحد ميكروبى المنشأ، بل كان كشفا عن قارة مجهولة تمور بالفواجع وتعد بالمنافع، فالبكتيريا الملوية البوابية القادرة على العيش فى بيئة حمضية معادية مُترعة بالإنزيمات الهاضمة، وبرغم ضآلة هذه البكتيريا ومهانتها فى ذيل قائمة الكائنات الحية، إلا أنها تبدَّت مذهلة وهائلة فى تفاصيل تركيبها وعملها التى كشف عنها العلم الحديث، فهى وإن كانت تشبه دُويدة متناهية الصغر ذات خيوط سوطية فى مقدمتها، إلا أنها كانت تُناظِر بإمكاناتها البيولوجية العجائبية غواصة حربية شديدة التطور، مُدججة بمنظومة كاملة من الأسلحة جاهزة للقيام بعمليات نوعية عديدة عليها أن تقوم بها، فى بيئة معادية شديدة العداء لها، فهى تشق طريقها عبر الهُلام المخاطى الكثيف الواقى لبطانة المعدة بضربات تموجية من سياط مقدمتها، ومن نقاط إفراز على سطحها تطلق إنزيما يُحيِّد الحموضة فلا تؤثر على غلافها، ثم تغوص فى هذا الهلام مستهدفة الرسو والتجمع بتماس مع سطح خلايا الغشاء المخاطى للمعدة، تبدو بتجمعها فى وهاد هذا الغشاء كحشد من غواصات غازية فى ميناء استولت عليه لتوها، ومن هذا الميناء تطلق نيرانها الكيميائية تمهيدا للتوغل عبر خلايا بطانة المعدة، تفرز مواد تسهل التحامها بهذه الخلايا، ثم تطلق عليها سموما تجعلها تلتهب وتتخرب، بعد ذلك تفتح مغازل مدفعيتها الثقيلة التى تطلق إنزيمات مذيبة للدهنيات والبروتينات تفتح ثغرات فى الجدار المتين للمعدة، وتؤهب لاختراق هذا الجدار. أما أعجب وأخطر مافى ترسانة هذه الغواصات البكتيرية الغازية بالغة الضآلة، فهى مَحاقِن عضوية تبث فى خلايا جدار المعدة والاثنى عشر وشبكة الغدد الليمفاوية المحيطة بها، موادَّ تُبطِل فعل الموت المبرمج لهذه الخلايا الذى يجعلها تستسلم لموت اختيارى عند انتهاء أعمارها واستنفاد العدد المُقدَّر لها من الانقسامات، وهذا يعنى تحويل هذه الخلايا إلى كيانات طامعة فى الخلود، والاستفحال، والانتشار بلا حدود ولا رادع، تتكاثر بشراهة دون أن تكترث بما حولها من خلايا، وتستولى على غذاء غيرها باصطناع أوعية دموية جديدة تختلس لها هذا الغذاء، ولاتكتفى بتكتلها فى أورام ضاغطة على الخلايا السوية، بل ترسل من نسلها خلايا تشبهها لتنتشر وتكرر سيرتها الأنانية المسعورة فى أماكن بعيدة، سرطانات! فأى كشف كبير هذا، وأى علاقة ديمقراطية وخلاقة بين الأجيال أثمرته!

معا للفوز بالجائزة

صورة بالميكروسكوب الإلكترونى الماسح لعينة من معدة مقروحة للبكتيريا «الملوية البوابية» التى اكتشفها بعد قرون وارن ومارشال فأحدثا ثورة فى الطب

روح الأبوَّة العلمية السامية فى قصتنا، كما روح البنوَّة الجميلة فيها، تم تتويجهما فى عام 2005 بجائزة نوبل فى الطب مناصفة، ولكم كانت صور تسلُّم الأب فى العلم، كما الابن فى العلم، لتلك الجائزة الأعلى مقاما فى العالم بديعة الإنسانية ورفيعة الخُلُق، رسالةً ساطعة البهاء بمفارقة خلابة، تقول بأن الإبداع البشرى العِلمى وَظَّف ميكروبا ملويا فى مظهره مؤذٍ للبشر فى جوهره، لشق طريق قويم تتدفق عبره بِشارات إزاحة آلام مبرحة عن كاهل بشر يعانون ويُعدُّون بالملايين فى كل بقاع العالم، كما تمضى عبر هذا الطريق نفسه موجات من النور تقول بأنه: لا إنجاز حقيقى خيِّر وكبير إلا بتداول المعرفة كما الحق والخير بين الأجيال، يصدُق هذا على العِلم، كما على أى مجال آخر، ومنه السلطة، ومادمنا بين سطور العلم والحياة، فالنذير ينبغى أن يُوجَّه إلى المتسلطين فى ساحة العلم والبحث العلمى بين جنبات جامعاتنا، وهى حكاية كبيرة طويلة ومريرة، تمتد من تشوهات مجتمعية إلى الجامعات، وأكثر من ذلك تعكس نفسها فى ممارسات سياسية تخلق مظالم تؤدى إلى فقدٍ مادى ومعنوى لطاقات واعدة فى وطن أحوج ما يكون لعدم فقد ذرة من مكوناته، خاصة من الشباب النابه، بل الشباب عموما، وهذا ما تضيئه فى لحظتنا السياسية الراهنة أمثولة هذه القصة من قصص العِلم.

من سى السيد إلى الفوهرر

لقد تناول علم النفس الاجتماعى قضية السلطة الأبوية تحت عنوان البطريركية Patriarchal، التى ترتبط من منظور علم النفس المرضى بالتسلط والهوى الذكوريين، ويُعزى إليها أشد التأثيرات سلبيةً على الأُسر والمجتمعات والدول، ومن رحمها المسموم بالقمع وعدم الإنصاف يتعاقب ظهور المستبدين الصغار والكبار، صناع الحروب والكروب أينما تواجدوا وهيمنوا، ومن أمثلتهم التدميرية أرباب الأُسر القساة، والحكام الديكتاتوريون، وزعماء الحركات والجماعات المتطرفة، والعصابات الإجرامية، وكلهم يشتركون فى سمة واحدة هى عدم الرضا بأقل من السمع والطاعة العمياء من أتباعهم، والتسليم برؤاهم أحادية الجانب مهما بدت جانحة أو جانبها الصواب، ونماذجهم تبدأ من «سى السيد» مرورا بالمرشد والزعيم وأمير الجماعة والسكرتير العام والأخ الأكبر وصولا إلى الفوهرر والدوتشى، ومآلهم جميعا تُعبِّر عنه أسطورة أو مأساة أوديب، حيث يقتل الابن المنكور «أوديب» أباه المتسلط «لايوس» ملك طيبة دون أن يعرف أنه أبوه، ويصير ملكا على طيبة فيتزوج أمه «جوكاستا» دون أن يدرى أنها أمه، فتصاب مملكته بطاعون الجَدْب، وعندما تعلم الأم أنها تزوجت ابنها تقتل نفسها، فيما يتجرَّع أوديب مرارة المأساة حتى ثمالتها، فيذهب إلى أمه الميتة ويستل من ثوبها دبوسين يفقأ بهما عينيه لأنه لم يعد يحتمل أن يرى المزيد!

إنها السلطة، وهو التسلط

رسوم كارتونية فى الصحافة الأسترالية تعلق على ابتلاع مارشال للبكتيريا البوابية حتى يقتنع العالم بأنها الميكروب المسؤول عن حدوث قرحة المعدة

القتل والجدب والعمى، هما حزمة اللعنة الكبرى التى تصيب من يسيئون استخدام السلطة بالهوى والاستبداد، حيثما كانوا وكانت السلطة، أى سلطة، وهو ما حلَّله بإقناع وبراعة «إيريك فروم» عالم النفس الاجتماعى الشهير فى كتابه الموجز العميق «الحكايات والأساطير والأحلام» الذى مارس فيهَّ إبداعه التحليلى لدراسة اللغة الرمزية لهذا الثالوث المرتبط باللاوعى بدرجات مختلفة، حيث اعتبر مأساة أوديب معالجة رمزية للصراع الوحشى على السلطة. ومن ثم اختلف مع فرويد الذى أخضع هذه الأسطورة لمنهجه فى التحليل، فرأى فيها ـ كعادة فرويد الاختزالية ـ تعبيرا عن رغبات الطفولة الجنسية المكبوتة، والتى انطلق منها ليبنى منظومته للتحليل النفسى التى لم يبق منها سوى القليل المقبول لدى علماء النفس من بعده، ومنهم تلاميذ وزملاء له اختلفوا معه إلى درجة القطيعة، ولعل إريك فروم أحد من تأثروا به وتمردوا عليه فى آن، وإن ظل يحتفظ له بالتقدير الواجب لريادته واكتشافاته فى خفايا النفس الإنسانية. فروم عندما توقف أمام الأسطورة فى «أوديب ملكا» للشاعر سوفوكليس، لم ير فيها ما رآه فرويد، بل رأى فيها ساحة صراع على السلطة الأبوية يتنازع فيها الملك الأب بوعيٍ تسلُطِّى، مع الابن اللاواعى، بينما الملكة المفترض تمثيلها لنظام «سلطة الأم»، تنازلت عن أمومتها نزولا على رغبة زوجها الملك، السُلطة، فقبلت بتشريد ابنها ونفى وجوده، ومن ثم حاقت بالجميع اللعنة، وكان ممكنا لو أن الأم تمسكت بسلطة أمومتها ولم تقبل بتشريد ابنها، لكانت النتيجة أفضل للجميع، بلا قتل ولا انتحار ولا عمى.

العلاقة السوية بين الأب والابن فى العلم تُوِّجت بجائزة نوبل فى الطب عام 2005 ودَشَّنت فتحا جديدا فى فهم وعلاج أمراض مستعصية كالسرطان

إننى أتفق مع توصيف علم النفس المرضى، سواء كان فرديا أواجتماعيا، للنقيضين: سلطة الأب (البطريركية) المستبدة ذات الهوى والتفرقة بين الأبناء، وسلطة الأم (الماتريركية) العادلة حدبا ورعاية لكل أبنائها، لكن ماذا عن النموذج السوى لسلطة الأب؟ ألا يوجد نموذج سوى لسلطة الأب؟ مع ملاحظة أن سلطة الأم (الماتريركية) ليست دائما بهذا الصفاء الرومانسى، فثمة أمهات لديهن من قسوة «سلطة الأب» الذكورية أكثر مما فيهن من رحمة «سلطة الأم»الأُنثوية؟ ولعل جولدا مائير ومارجريت تاتشر ــ برغم الفارق بينهما ــ تكفيان لتمثيل نموذج: السلطة الماتريركية المُبطركة!

إن السؤال عن إمكانية وجود علاقة سوية بين السُلطة الأبوية والأبناء، يوحى لى بإجابة صغيرة بسيطة لماهية السَوِّية فى السلطة، تنبع مما يجهر به النموذج الأحيائى داخلنا، فنحن الذكور ننطوى عضويا على مُورِّثات من الأب والأم معا، أى أن داخلنا الأبوة كما قدر من الأمومة، ولعل هذا يُقرِّب الفكرة المجازية التى أطرحها من واقع التباس العلاقة بين السلطة الأبوية والأجيال الشابة، والفكرة يبلورها السؤال الاستنكارى التالى: لماذا نحتكم فقط إلى الحالة المرضية للسلطة الأبوية مما يبرر رفض كل سلطة، كما لدى الأناركيين أوالفوضويين؟ لماذا نخضع لثنائية النقيضين كطريق وحيد للاختيار لامفر منه: إما السلطة البطريركية المستبدة أو السلطة الماتريركية الرؤوم، والتى انقرضت واقعيا عبر القرون من التاريخ البشرى، وبمبررات يمكن فهمها فى سياقها؟ لماذا لانختار طريقا ثالثا ترتفع فيه رايات الحسم والحدب معا، قيم الأبوة السوية والأمومة السوية، فى آن.

من رحاب العلم لكل الحياة

العلاقة السوية بين الأب والابن فى العلم تُوِّجت بجائزة نوبل فى الطب عام 2005 ودَشَّنت فتحا جديدا فى فهم وعلاج أمراض مستعصية كالسرطان

إن مثال الأبوة السوية والبنوة السوية بين العالِمين «بارى مارشال» و«روبن وارن» والتى أثمرت أبهى النتائج، قد يكون جوهرها الخلَّاق هو الاستخدم الصحى أو السليم للسلطة العلمية بين الأجيال، وهى ليست الظاهرة الوحيدة فى الإنجاز العلمى الفائق الذى استحق جائزة نوبل، خاصة فى الطب والفسيولوجيا، فبعدها تكررت القصة بين أب وابن علميين سويين، برغم تباعدهما العرقى واللغوى والزمانى والمكانى، عندما فاز «شينياياماناكا» اليابانى الشاب، وجون جوردن البريطانى العجوز، بجائزة نوبل فى الطب مُشاركةً عام 2012 لنجاح اليابانى فى إعادة برمجة الخلية البشرية البالغة لتعود غضة متعددة الإمكانات كما لو كانت جنينية، ولم يكن ذلك إلا امتدادا لبحث أوَّلى للإنجليزى «جوردون» لتحويل خلايا الضفادع البالغة إلى شبه جنينية قبل 40 عاما عندما كان اليابانى بالكاد رضيعا. معادلة رائعة ومُنجِزة ينبغى استلهامها ليس فى العلم فقط، بل فى الحياة الاجتماعية، والسياسية خاصة، فمن يبتغى نجاحا رفيع المقام وإنجازا لخير البشرية وجلال الحياة، لابد له أن يحترم تواشُج بنوَّةٍ متعاونة وطَموح بلا جحود، وأبوة عادلة ومعطاءة بلا تسلُّط. إنها دعوة للتفكير فى سؤال شديد الأهمية لدينا ــ هنا والآن ــ عن: الشباب والسُلطة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية