لم تقتله رصاصةٌ إسرائيلية، كما هو مشهودٌ فى أدبيات شهداء مصر منذ عام 1948. ولم تفجّر جسدَه المفتول قذائفُ صهيونية صناعة أمريكية كما أضاءت نيرانُ آلاف القذائف فى أجساد شهدائنا، فخلّفتها أشلاء مُعفّرة بالويل والدماء فى حروب الاستنزاف والتحرير كما تعلّمنا فى كتب التاريخ منذ طفولتنا. ولم يبتسم أحدُ أبناء صهيون، فرحًا بموته كما عادة الحروب الكلاسيكية بيننا وبين عدونا التاريخى منذ وعيت عيونُنا على الحياة. إنما غدرته يدٌ سوداءُ ضالة آثمة من بنى جلدتنا ناطقةٌ بلساننا العربىّ شاربةٌ من نيلنا وفُراتنا، وهنا تنقلبُ الشهادةُ شهادتين.
شهادةٌ أولى من أجل الذود الجسور عن الوطن وحماية رفاقه جنود مصر وضبّاطها، وشهادةٌ ثانيةٌ لأن القاتلَ خائنٌ من فئة الضالّين المُضلّين، الذين يزعمون العروبة وهم أسوأ على بنيان العروبة من ڤيروس بنى صهيون، ويزعمون انتماءهم لمصر وهم الأشدُّ مُقتًا وبُغضًا لمصر وللمصريين، ويزعمون الإسلام وهم أشدُّ خطرًا على الإسلام من عبدة الأوثان فى سالف الأزمان. إخوان الشياطين وأزلامهم الإرهابيون التكفيريون الدواعشُ فى كافة ربوع الأرض يحصدون أرواح جنودنا البواسل الأطهار، الذين لم يتعلموا إلا حبّ الله وحبّ الوطن وصناعة الجمال ونثر الأمن على جبهة الوطن وفوق جباه الناس. هذا جيشُنا العظيم، جيشُ مصر، علّم أولاده الأبطالَ أن الروح رخيصةٌ مقابل ذرة من تراب مصر، وأن النفسَ تهون جوار إماطة الأذى «البشرىّ» عن الحياة. من أدبياتنا الإسلامية أن إماطة الأذى عن الطريق من جوهر الإيمان ومتن الإسلام. وإماطة الأذى تعنى إزالة حجر قد يتعثّر فيه السابلةُ أو يُلحق الأذى بكفيف بصر أو مُسنّ واهن يتوكأ على عصاه. وفى المعنى الأوسع لهذه الفكرة، نقول إن إماطة الأذى تتجاوز إزالة حجر أو سد حفرة إلى إماطة «الأذى البشرىّ» عن الحياة، وما الإرهابيون إلا لونٌ بغيضٌ من الأذى البشرى الذى يدمّر الحياة. ومن صلب الإيمان بالله وبالوطن إماطة ذلك الأذى البشرىّ عن حياتنا، وهذا ما يفعله، اليوم وأمس وغدًا، جنودُنا البواسلُ فى سيناء الشريفة.
لكن هناك شهادة ثالثة يستحقها هذا الفارسُ النبيل، الشهيد مجنّد محمد أيمن، ابن مدينة دمياط، الذى لقى وجه ربّه الكريم، الثلاثاء الماضى، بعدما احتضن بجسده إرهابيًّا سافلاً كان ممنطقًا بحزام ناسف ينتوى تفجيره فى ثكنات جنودنا. احتضن فارسُنا النبيل ذلك الإرهابى الآثم لكى يفتدى كتيبة من زملائه الجنود والضباط، بأشلائه التى تناثرت فى سماء العريش، قطعًا من الدُّر النقى، قبل أن يجمعها قادتُه ورفاقه وذووه ليدثّروا رُفاته الكريم فى علم مصر الأبىّ ليحمله جنازٌ عسكرى مهيب إلى لحده الطيب. الشهادة الثالثة لأنه ركضَ إلى الموت ركضًا واحتضنه بجسارة، بدلاً من انتظار الموت على قارعة الوطن. ذهب إلى حتفه الصعب راضيًا مرضيًا وهو يقول لنفسه: «أنْ أموتَ أنا وحدى أفضلُ لمصرَ وأبقى من أن يضيع عددٌ كبيرٌ من الرجال. مصر اليوم فى حاجة ماسّة إلى كل باسل من بواسلها، فواحدٌ يفتدى ثمانية». لم يفكّر فى أن هذا الواحد هو ذاته عند أمّه بكل مَن فى الأرض من بشر. لم يفكر فى أمٍّ تركها فى البيت مطمئنةً تدعو لابنها على سجادة صلاتها أن يعود إليها بالبِشر والنصر، ستتحول بعد لحظة من ركضه للموت بملء إرادته، إلى ثكلى لا يجفُّ دمعُها أبدَ حياتها.
كم فيضًا من الدمع سكبت أمُّه قبل أن تناشد الفريق أول «صدقى صبحى» أن يتراجع عن قراره بإعفاء ابنها الآخر، شقيق الشهيد، من الخدمة العسكرية. كأنما هى الخنساء التى كانت تقدّم أبناءها ابنًا فى إثر ابن دفاعًا عن المستضعفين وانتصارًا للحق. طوبى لك أيتها الأمُّ الكريمة بوطنيتك وإيمانك، وطوبى لكِ بابنك، وطوبى لنا بكِ وبه.
أيها الشهيدُ النبيل، روحك الفارسة تُظلّل سماء مصر وتحميها من الويل، فنمْ ملءَ جفونك عن شواردها، ولا تحزن علينا، فلن نضيعَ ولن تضيعَ مصرُ وأبناؤها أنت.