حين يكثر الكلام ويتحول إلى لغو فارغ نسارع بترديد المثل القائل «السكوت من ذهب» وحين يعز الكلام وتنتظر حديث يوضح ويجلى ويعبر عن رؤية شخص نردد مقولة سقراط الحكيم «تحدث حتى اراك». المفاضلة بين السكوت والكلام رهن اللحظة والموقف، هناك من يميل إلى الكلام في الفاضى بدون هدف محدد أو موضوع بعينه، وهناك من يصمت معتبرا أن الكلام لن يثمر شيئا، وعندما يصبح هذا الشخص مسؤولا يصبح الحديث ليس مجرد كلام، ولكنها رسائل محددة الهدف، ويزداد الأمر تعقيدا مع رئيس الدولة، كل كلمة يجب ان تكون موزونة بميزان الذهب، فهو رجل يستمع له شعبه والعالم كله، كلامه الرسمى والارتجالى يعاملان معاملة واحدة، فلا سبيل لخطأ ولا تبرير له، ولا يجوز استخدام ألفاظ يسهل تأويلها على أكثر من معنى. بعد تولى الرئيس السيسى الحكم، وعد الشعب بحديث شهرى، ليتواصل فيه مع الناس، ثم استعاض عنه بالحديث في مناسبات عامة او فى الدورات التثقيفية التي تقيمها القوات المسلحة. بعد حادث سقوط الطائرة الروسية، تحدث الرئيس في الندوة التثقيفية العشرين للقوات المسلحة، كنت انتظر من الرئيس ان يوضح لنا استراتيجية مصر للتعامل مع الحادث وتوابعه السيئة على الاقتصاد، لكن معظم الحديث كان عن الإنجازات الشهور السبعة عشر التي تولى فيها الحكم وكيف ستتعامل الحكومة مع ارتفاع الأسعار والذى ستظهر نتائجة مع نهاية الشهر الجارى، وكالعادة تحدث عن دور الإعلام وانتهى بمزحة «المرة الجاية هشتكى للشعب» الحديث كان اقرب لبيان الحكومة وكيف ستدبر أمر ارتفاع الأسعار وتسليك البلاعات، وعادة ما يشكو رئيس الوزراء من الإعلام الذي يترصد اداء الوزارة ولا يرى إلا نصف الكوب الفارغ، حديث رئيس مصر يجب ان يكون مختلفا أنه رسالة للداخل والخارج وتحديد لمفاهيم العمل في المرحلة المقبلة وليس سرد تفاصيل يمكن للوزير المختص ان يتحدث عنها. في الأسبوعين الأخيرين، كانت هناك احداث كبيرة لها ثأثير مباشر على مصر، انعقاد مؤتمر فيينا الذي تواكب مع حوادث باريس الإرهابية، والمؤتمر معنى بإيجاد حلول سياسية للأزمة السورية، وبالرغم أن مصر كانت اول من دعت لذلك تم تجاهلها ولم تدع إليه، ثم مؤتمر العشرين في أنطاليا ومادار فيه لم يعلن عنه كله، لكن الحديث عن ضرورة تكاتف دول العالم لمحاربة الإرهاب أصبح مقررعلينا، وهى الدعوة التي طالما نادت بها مصر أيضا، ظهور نتائج تحقيقات حادث الطائرة الروسية التي أثبتت أنه فعل إرهابى، موقف السودان وهجومها على مصر، وتبجح أثيوبيا بشأن مفاوضات سد النهضة، اسقاط الطائرة الروسية من جانب انقرة، وما يتبع ذلك من تصعيد وتعقيد الموقف في سوريا الذي يمكن ان تتحول لساحة الحرب العالمية الثالثة، كثيرة هي التحديات التي تواجه مصر بعيدا عن نظرية المؤامرة المتداولة. هذه الملفات تحتاج لوضع استراتيجية لمواجهتها والتفكير في كيفية استعادة دور مصر الاقليمى وتأثيرها الذي فقدته، وهو لن يتأتى بالنوايا الطيبة وترديد «تحيا مصر» و«مصر أم الدنيا وهتبقى أد الدنيا»، مصر تحتاج أولا لجبهة داخلية قوية وداعمة للنظام ولن يتأتى ذلك إلا باسترجاع ثقة الناس في النظام وعودة شعبية السيسى الذي فقد جزءا كبيرا منها، بسبب تعامل الداخلية غير الإنسانى مع المتهمين ومحاولات إرهاب المخالفين في الرأى، واليأس الذي تسلل للنفوس لعدم وجود تغيير في الحكم، على الرئيس أن يبدأ في وضع خطة زمنية معلنة للافراج عن كل المعتقلين السياسين الذين لم يثبت عليهم جرائم واخذوا بالشبهات، وان يقيم حوارا موسعا مع المثقفين واصحاب الخبرات وهم ُكثر في مصر ولا ينغلق على مجموعة بعينها. نحن في أشد الحاجة لخطاب سياسى للرئيس، محدد وواضح وصريح، ليس فيه مجال للتأويل، يتحدث فيه عن الملفات الخارجية التي تؤرقنا والملفات الداخلية المقلقة والخاصة بالحريات ومبدأ سيادة القانون ومحاربة الفساد الذي تتعثر خطواته. نريد من الرئيس ان يسير على نهج الشورى عند اتخاذ قراريخص مستقبل الشعب، فعليه ان يرعى مؤتمرات للخبراء تناقش المشروعات الكبرى مثل العاصمة الإدارية والمفاعل النووى، ومدى أهميتهما لمصر الآن من عدمها، وأخيرا على الرئيس ان يعمل على استعادة مشهد 3 يوليو 2013 حين اجتمع ممثلو طوائف الشعب على قلب رجل واحد.. لا أحد ينجح بمفرده... التاريخ بيقول كده.