كان يجلس على المقعد المجاور للنافذة كعادته، النافذة تطل على الحديقة ومدخل الدار، ساعات طويلة يقضيها مثبت عينيه على نقطة خضراء بعيدة، وأفكاره تتوه وسط الزمن الذى عاشه والذى يعيشه، لم يتصور يوما ان تنتهى حياته هنا، فى مساحة لا تزيد عن 3 متر×4 متر ، ظل طوال حياته يحلم بالبيت الريفى والحديقة الواسعة التى تحيط به، بيت يطل على خضرة ممتدة إلى خط الأفق، لم يستطيع أن يحقق حلمه، ضاق الحلم ليصبح شقة مطلة على حديقة، ثم ضاق الواقع ليصبح حجرة مطلة على حديقة.
لم يعد يهتم ... كل الأمور تتساوى فى غيابها.. كان يريد ان يكون ثريا وأنيقا وناجحا من أجلها... لتفتخر به ، تواعدا أن يظلا معا إلى الأبد ، لماذا يظن الإنسان انه قادر على أن يهب لنفسه و لغيره وعدا لايملكه !!!
السبت ..يوم الزيارة ...ستأتى وحدها بعد ان تخلت عنها الصحبة ...وحده سيبقى بعد أن تذهب ...يفكر 6 أيام فى اليوم 7...ستقطع الممشى وتتدخل إلى الاستقبال وسيسمع صوت خطواتها خارج غرفته بعد 10 دقائق ،تفتح الباب وتسرع الخطى نحوه وتحضنه كعادتها: "وحشتنى يا بابا "، ثم تسحب المقعد المجاور للسرير لتجلس قبالته، وتبدأ الحديث بالاعتذار عن اخوتها لعدم تمكنهم من الحضور ووعدهم المتكرر بزيارته الأسبوع المقبل، ثم تحكى له عن احوالهم جميعا واحوالها بالتفصيل وتخرج من حقيبتها تليفونها المحمول وتبدأ فى عرض صور الأقارب والأصحاب لتسليته وتسأله عن صحته ومواعيد الدواء، وخدمة الدار وهل هو مستريح، فى كل مرة كان يرد بما تريد ان تسمعه، يطمأنها على حاله وصحته ولكن هذه المرة قال لها: "سلوى يا حبيبتى عايز اطلع من هنا، عايزة اروح بيتى، وانام فى سريرى وابص على صورة سهام المعلقة على الحيطة ، خلاص مش هقول ولا كلمة للمرضة ولا هزعق فى الشغالة ، خدوا كل الحاجات اللى انتوا خايفين عليها تتسرق، ولو المعاش مكفاش، بيعوا الفدانين اللى فاضلين واصرفوا منها، كفاية ...مش قادر...مش عايز أموت هنا ... انا مش عايز اعملك مشاكل مع جوزك، متجيش تشوفينى غير مرة فى الأسبوع زى دلوقتى، مش كل يوم زى الأول، صدقينى مش هتعبكوا تانى ، السنة دى خلتنى هادى ، انا بطلت عصبية خلاص ...كان صوته مؤثرا ،كاد أن يبكى، وقبض على يد سلوى وكأنه يستعطفها .
لم ترد عليه تحاشت النظر إليه، نظرت إلى الحديقة وسرحت بعيدا، تذكرت احوالها فى العام الماضى، زوجها هددها بالطلاق، أهملت بيتها وأولادها لتبقى بجوار والدها بعد وفاة أمها المفاجئ ، فى البداية اتفقت مع أخيها سميروأختها سحر على ان يقتسموا العناية بأبيهم ولكن بعد شهر تخلى الاثنان عن وعودهما لضيق الوقت وإنشغالهما بالعمل والبيت ، تدهورت أحوال أبيها الصحية فجأة ، لم يعد يريد أن يأكل او يتكلم ،أصبح شديد العصبية ولم يعد يتحكم فى البول ، يحتاج كالأطفال لحفاضات أثناء النوم،عناية مرهقة جعلتها تبحث عن معاون ، استخدمت خادمات مقيمات واحيانا ممرضات ليتناوبن العناية به ، ولكنها اكتشفت اختفاء أدوات المائدة الفضية وتحف أمها الثمينة ، وكذلك غياب مبالغ من التى كان أبيها يحتفظ بها فى الدولاب ، وللأسف لم تستطع ان تحدد السارق مع كثرة أعداد اللواتى ترددن على خدمة أبيها ، وبدأ زوجها يشكو من غيابها ويتشاجر معها ويصفها بالاهمال.. دخلت فى دوامة ، واصرت هذه المرة على أن يتعاون معها سمير وسحر، اللذان قررا أن الحل الوحيد: ذهاب أبيهم إلى دار مسنين معروفة بخدماتها المميزة.
وهو ما حدث ، استطاعت سلوى أن تستعيد حياتها، وخصصت يوم فى الأسبوع لزيارة والدها والبقاء معه حتى موعد نومه، كان اخويها يحرصان على زيارة والدهما فى البداية، ثم بدء سمير فى التغيب مرة ثم سحرمرات، وانتهى الأمر إلى توقفهما تقريبا عن زيارة والدهما، والآن يريد والدها أن يعيدها من جديد إلى الدوامة التى يعلم الله وحده أنها يمكن ان تعصف بحياتها العائلية هذه المرة، شعرت بقبضة أبيها تخف من على يدها، سرت فى روحها مشاعر الشقفة والعطف والحب لأبيها ، وتذكرت كيف كان يدللها ويعطف عليها ويؤازرها إلى الحد الذى كانت والدتها تجده "دلع ماسخ"، كانت قصة حبه لأمها نادرة، أنهار تماما بعد وفاتها وكان يصرخ: "ضحكت عليا ، طول عمرها بتقولى مش هسيبك ابدا ...يارب خدنى معاها " فى مأتم أمها كانت نجوان تبكى فقدانها لأمها وأبيها فى آن واحد ..لا لن تخذله ابدا ، حتى لوكان الثمن حياتها...
قالت بود وحب : "خلاص يا بابا يا حبيبى، ادينى فرصة انظف البيت وادبر الأمور واخدك اول الأسبوع الجاى "
لم تتلقَ جوابا ، كانت يد ابيها مدلاة بجوار المقعد، ورأسه مائلة إلى جهة اليمين وعيناه شاخصتان إلى أعلى ...
بابا ..بابا ...حبيبى يا بابا...