«خلق الله لنا أذنين ولسانًا واحدًا لننصت أكثر مما نتحدث».. كم مرة سمعت هذه العبارة مئات المرات، وأول مرة سمعتها كانت من أمي، وكانت تنصحني بأن أعطي فرصة للآخرين ليتحدثوا ولا أصادر على أقوالهم قبل أن ينطقوا بها، باعتبار أنني على علم مسبق بما سينطقون به.
وأحيانًا كنت أتذكر نصيحتها ومرات كثيرة كنت أنساها وسط انشغالي بالحديث، الذي له لذة هي «لذة الإثم»، حتى إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حذرنا من ذلك حين قال: «هل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟»
وفي الفترة الأخيرة بدأت أشعر وبشدة، باحتياجي للصمت والإنصات، فالحديث يقتطع من طاقتك أكثر من الاستماع وليس من مبادئ الاقتصاد أن استخدم آلة تنتج ما قيمته 100جنيه وتستهلك طاقة بـ150 جنيها! وهو ما يحدث غالبًا في جلساتنا، حيث نستهلك بأكثر مما نستفيد.. ولصديقة لي تعليق لطيف عن هذه الجلسات، فتصفها بجلسات «طق حنك»..
وجزء كبير من عمرنا ننفقه في «طق حنك» لا يقرب بيننا بل غالبًا ما يباعدنا، حيث يحاول كل منا أن ينتصر لحديثه ويجد له ألف مبرر ومصداقية وبدلاً من أن تصبح أحاديثنا جسرًا من جسور المحبة تتحول لحروب يحاول كل فريق أن يجد أنصارًا له ويصبح الطرف الآخر عدوًا بحكم الاختلاف.
حكى لي كاتب كبير مرة ضاحكًا: «كنا مرة في سوريا في اجتماع ثقافي كبير يضم فنانين وكتابًا وبدعوة من وزيرة الثقافة حينذاك وطلب واحد منا كأس ويسكي، فقال له النادل معتذرًا إن العشاء ليس فيه مشروبات روحية ولكن توجد حانة مفتوحة بجوار القاعة يمكنه أن يجد فيها مراده، وتحول هذا المطلب الشخصي إلى حديث المائدة وبدأ يأخذ منحني آخر عن مدي صواب التصرف الذي أقدم عليه الأديب، وأنه بذلك يحرج الشعب المصري أمام الشعب السوري، ثم وجد أديبنا السائر على درب أبي نواس نفسه في مأزق، فحاول أن ينقل الحديث لمنحني آخر هو التشدد والسلفية والليبرالية وما لبث الأمر أن تحول لشقاق بين الجالسين ولم يعد أحد يتذكر أصل الحدوتة، بل انتهي الأمر بلعن السادات واتفاقية كامب ديفيد!!»..
هكذا نبدأ وبهذا ننتهي.. لأننا للأسف نتحدث أكثر مما ننصت وتضيع الحقيقة وسط الصخب.. واستمع لأي حوار على الفضائيات أو استمع لمجموعة على القهوة أو في صالون منزل.. مرة حاول أن تستمع ولا تتحدث وستري العجب.