لا أعرف من أين جاءت الصحف، الصادرة صباح أمس، بهذا الكلام الكثير، الذى حاولت، خلافاً للحقيقة، أن تسقيه لقرائها، عن أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت حاضرة فى مؤتمر شرم، بقوة، وعن أن وزير خارجيتها، جون كيرى، قد جاء بنفسه، ليعلن ذلك من خلال المؤتمر، وعن أن بلاده تدعم مسيرة الاقتصاد والاستثمار عندنا بكل عزم؟!
من أين جاءت الصحف بهذا الكلام؟!.. وبمعنى أدق، من أين جاءت بهذه المعانى؟!.. ولماذا تحاول خداع قرائها، بتقديم شىء لهم ليس موجوداً على الأرض؟!
صحيح أن كيرى حضر، وصحيح أنه قد جلس فى الصف الأول، وصحيح أنه كان يصفق من آن لآخر، فى أثناء خطاب الرئيس.. وصحيح.. وصحيح.. إلى آخره.. غير أن هذا كله، لمن يتأمله جيداً، مجرد شكل بلا أى مضمون، ومجرد ظاهر لا ينطوى على أى محتوى حقيقى!
هل لاحظتم، مثلاً، أنه حضر اجتماعاً مع الرئيسين السيسى، وعباس، والملك عبدالله الثانى، وأن اجتماعاً كهذا كان يبحث فى قضية فلسطين، ولا يتعرض لموضوع مؤتمرنا من قريب، ولا من بعيد؟!
هل لاحظتم أن حضوره هو حضور سياسى بالدرجة الأولى، وأن وجوده هو وجود من النوع ذاته، وأن سبب الحضور، ومعه الوجود، لا علاقة له بأن واشنطن تريد للمؤتمر النجاح، وإنما لأنها- أولاً- تلقت دعوة، ولأنها- ثانياً- لا يمكن أن تفوت فرصة كهذه، دون أن تكون حاضرة فيها؟!.. هل لاحظتم أن حلفاءها الكبار فى المنطقة لم يحضروا المؤتمر أصلاً؟!
وحتى اجتماعه مع الرئيسين المصرى والفلسطينى، والملك الأردنى، كان كأى اجتماع من آلاف الاجتماعات الأمريكية التى انعقدت فى هذا الاتجاه على مدى عشرات السنين، بلا أى نتيجة، بدليل أن القضية لاتزال فى مكانها، بل إنها تتأخر عن مكانها الذى كانت قد بدأت منه، كل يوم، وبدليل أن ما يتفاوض عليه الفلسطينيون، اليوم، يتفاوضون على أقل منه غداً!
رحت أفتش من جانبى عن شىء يؤيد ما حاولت صحف الأمس أن تروجه لقرائها، فلم أجد شيئاً.. أى شىء.. باستثناء شىء يتيم عن أن شركة جنرال موتورز سوف ترفع استثماراتها فى بلدنا 200 مليون دولار، وهو رقم، كما ترى، أقل من نصف الرقم الذى أعلنت سلطنة عمان أنها سوف تستثمره فى مصر!! ثم إن جنرال موتورز تقول إنها سوف ترفع استثماراتها.. سوف!
لذلك كله، ولغيره، كان جون كيرى صادقاً مع نفسه، حين زل لسانه، فى أثناء حديثه على مائدة الإفطار، فقال إننا جميعاً، يقصد الحاضرين فى المؤتمر، نعمل من أجل مستقبل إسرائيل!!.. وقد استدرك بسرعة، وسط ضحكات الموجودين، ليأسف على زلة لسانه، ويقول إنه يقصد مستقبل مصر!!
والحاصل أنها حقيقة، وليست زلة لسان أبداً، لأن ما قال به هو بالضبط ما يشغله، وهو بالضبط المستقر فى داخله، وهو بالضبط كذلك ما يملأ عقله، وهو متسق مع نفسه تماماً، حين يقوله ولا شىء فيما نطق به لسانه، رغماً عنه، كان يستدعى الاستدراك أو الاعتذار!
هو صادق مع نفسه، وليس لنا أن نلومه، ولا أن نؤاخذه، لأن هذا هو موقف بلاده المعلن، وليس مطلوباً منا سوى أن نفهم أن قناعاته، وقناعات بلاده هى تحديداً التى نطق بها لسانه، وهى تحديداً أيضاً التى علينا أن نفهمها، وأن نعمل لأجل أنفسنا، بناء عليها، وألا نواصل خداع الذات، فلقد خدعناها بما يكفى ويزيد!
ليست زلة لسان، لأن كل ما قبلها ينطق بها.