ما زال صديقي لا يكف عن صدمتي بما يكتبه من شطط وغلو، لا يمكن أن يكون هذا هو الخطاب المعبر عن التيار الثوري والقوى الديمقراطية، يصف كل من تمنى النجاح للمؤتمر الاقتصادي المنعقد بشرم الشيخ بالفئة الضالة المضلة التي تحمل أفكارا ساقطة وسخيفة ويسوق أمثلة للاستشهاد على منطقه لا علاقة لها بالموضوع ولا بالنظرة الأكثر عمقا تجاهه بعيدا عن الهوى السياسي والنزق الثوري الذي يقرأ الواقع بطريقة رومانسية يغلب عليها الحماس وتفتقد المنهج العلمي والموضوعية.
يقول بكل حماس: (نتمنى لكم فشلا ذريعا) ويقول: (نحن نتمنى الفشل لمشروع الاستبداد في الحكم ولا نتمنى خراب البلد)، ويقول (ومن يحب مصر حقا ستراه بفطرته يتمنى ألا ينجح هذا المؤتمر)، تزعجني الصيغة الجمعية التقريرية التي يكتب بها صديقي حين يعبر عن رأيه حيث يبدو كمن يخط فسطاطا للوطنية وفسطاطا للخيانة يُدخل فيه من يشاء وينزعه عمن يشاء، وهذا نفس ما يفعله موالي الاستبداد وأبواقه التي تحتكر الوطنية وتوزعها على من تشاء وتنزعها عمن تشاء، فكيف نلوم عليهم ما يفعلون ونحن نتورط في نفس السلوك بشكل آخر؟
لا يستطيع صديقي أن يفصل بين خلافنا السياسي مع النظام الحاكم ورفضنا لسياساته وممارساته وبين خوفنا على (مصر الدولة) التي لن تستطيع البقاء إذا أفلست وجاع شعبها وزادت معاناته وتفاقم بؤسه، وإذا اعتمدنا هذا المنطق الأعوج الذي يجعله يتمنى فشل المؤتمر الاقتصادي فلا بد أن نكون ممن يفرحون بالتفجيرات الارهابية وبمن يخربون البنية التحتية والمرافق ومن يفجرون المنشآت العامة ويحرقون الممتلكات الخاصة، فكل هذه ممارسات تهز من قوة النظام الحاكم وتساعد على إضعافه طبقا لهذا المنطق الذي يدعونا لتمني الفشل لمصر كلها بسبب النظام الذي يحكمها.
اعلم يا صديقي أن الأنظمة زائلة والشعوب باقية وأن مفهوم الدولة أكبر من نظامها الحاكم ومن معارضتها في نفس الوقت، لسنا ممن يجعلون الدولة صنما نتعبد حوله، ولكننا ندرك خطورة الفوضى وأبواب الجحيم التي ستصب نيرانها إذا لم يجد الناس ما يسدون به جوعهم، وحينها لن يطالبوا بتغيير سياسي بل سيفترسون كل من بيديه لقمة عيش ليست في يديهم، والانفجار الاجتماعي المرتبط بالفقر أشد ضراوة وفتكا بالأمم من الانفجار السياسي المرتبط بمطالب ديمقراطية.
مبدأ (تتهد على راس الكل ونبدأ من الأول) هو مبدأ معلول لا يرى أن حدوث الانهيار قد لا يتبعه قدرة على البناء مرة أخرى، هذا المبدأ لا يفهم قيمة التراكم وضرورة خلق البيئة المواتية اجتماعيا واقتصاديا لإقامة حياة ديمقراطية، وكلما كنا بعيدين عن هذه البيئة صارت الديمقراطية حلما صعب المنال
حتى إذا ذهب هذا النظام الذي نعارضه وترك بنية الدولة كاملة التجريف فكيف سيبدأ من يأتون بعده؟ هل تعرف الفرق بين مصر التي كان يحكمها مبارك وبين تونس التي كان يحكمها بن على؟ هل تعرف الفرق بين الدولتين وبين الشعبين؟ هل تدرك الآن بعد أربع سنوات من الثورة لماذا اختلفت المآلات بين مصر وتونس؟ ابحث عن الإجابة لتدرك أن فشل المؤتمر الاقتصادي ليس في صالح الثورة ولا حلم الديمقراطية.
الأنظمة عابرة لكن البنية التحتية للديمقراطية لن تقوم على بلد منهار اقتصاديا ومنفلت أمنيا بل إن الانهيار الاقتصادى والانفلات الأمنى عوامل مساعدة لبقاء الديكتاتورية وتعطي المبرر لاستمرار الأنظمة المستبدة، فهل هذا ما نريده؟
إن الثورة ليست أفعالا غاضبة فقط وليست سبابا نوجهه للحاكم وليست استعلاء نمارسه على الناس بل هي حلم جماعي يجمع الناس على مصالح ورؤى تجعل حياتهم أفضل، إن هدف الثورة هو الحياة الكريمة للإنسان على جميع المستويات ولا يمكن أن نعاقب الناس جميعا بسبب من يحكمهم حتى لو كان نتيجة اختيار بعض منهم.
إن الاستثمارات التي قد تنتج من هذا المؤتمر لن يقطف ثمارها سوى أجيال قادمة خلال عقدين من الزمن ربما نكون ساعتها نحن المعارضين، وكذلك النظام الحاكم في القبور فلماذا نصادر مستقبل أجيال لا ذنب لها في هذا البؤس الذي نحياه ونعايشه يوما بعد يوم؟ بنيت حجتك في تمني الفشل للمؤتمر على أن نجاحه سيطيل من عمر نظام مستبد وهذا منطق أعوج، فالأنظمة المستبدة التي تروج فكرة الكفاية مقابل الحرية والأمن على حساب الديمقراطية لا تستطيع تحقيق الأمن ولا إنجاز الرفاه والرخاء والكفاية لشعوبها، لأنها تهدم نفسها بيديها وممارساتها التي تقصر عمرها في السلطة، مهما استخدمت كل الدعايات الممكنة لإشعار الناس أن حياتهم تتحسن رغم وجود القمع وتغول الاستبداد وتفشي الفساد الذي يهدم كل جهود إصلاحية موازية.
إننا نتمنى نجاح المؤتمر الاقتصادي لأن المستفيد الأكبر منه شعب مصر وفى نفس الوقت لن يجعلنا نجاح المؤتمر نطبل للسلطة ولا سفك الدماء كما تظن وتتهم، ليس هناك تعارض بين أن نظل مدافعين عن الديمقراطية ومناضلين من أجلها وبين أن ندعم كل جهد يجعل حياة الناس أفضل حتى لو جاء على يد خصومنا السياسيين الذين نعارضهم، وهذه الوطنية التي نفهمها وتربينا عليها وهذا هو الإنصاف الذي لا يمكن أن نتخطاه.
لن نبالغ في انتظار نتائج تشبه المعجزات من هذا المؤتمر كما تبالغ أبواق إعلامية غير مهنية، ولكننا سنفرح بأي نجاح ولو صغير يعود على الناس بالنفع وسنظل نؤكد دوما على ارتباط مسار الإصلاح الاقتصادى بالإصلاح السياسي وخلق البيئة الجاذبة للاستثمار وتغيير السياسات الاقتصادية بشكل هيكلي وليس الاكتفاء ببعض الإجراءات المسكنة التي لن تنتشلنا من الإخفاق الاقتصادي بشكل عام:
يا صديقي محال أن أشكك في وطنيتك وثوريتك فقد رأيت منك على مدار سنين ماضية وفى عز جبروت نظام مبارك ما يجعلني على يقين تام أنك تكتب من أجل ما تعتقد أنه مصلحة الوطن وصالح الناس، لكن لا يمكن أن أرضى بما كتبته الآن لما فيه من غلو وانحراف في الرؤية وسوء التقدير، وكلنا قد يحدث له ذلك أحيانا تحت ضغط الظروف واجتياح العواطف لكن حين نستفيق نتبين أين نضع أقدامنا خاصة إذا كنا من أصحاب الرأي الذين يتابعهم عدد غير قليل من الناس ويهتمون بما يكتبون، فراجع ما كتبت وتبين الطريق فهذا ليس نهجنا..
[email protected]