كيف يرتب العقل الإنسانى معلوماته؟ وكيف تستدعى الذاكرة من اللاوعى تفصيلة تشبه ولومن بعيد موقف آنى؟ مايدور في عقل الإنسان مازال سرا غامضا، يكتشف العلم القليل منه يوما بعد يوم وصدق الله العظيم حين قال في كتابه الكريم (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) .
حدث لى مؤخرا شيئا مما ذكرته، تداعى في الأفكار والذكريات، حين شاهدت حديث الزميل ياسر رزق الذي ذكر فيه سر ارتداء الرئيس السيسى للنظارة السوداء، وتبين ان الأمر ليس بسبب الشمس أو للشياكة أوالاناقة ولكن لإخفاء دموعه التي تنساب تأثرا بسبب حال الفقراء في مصر، استدعت هذه اللحظة من الذاكرة مشهد نادية لطفى في فيلم النظارة السوداء المأخوذ عن قصة لإحسان عبدالقدوس، وبالرغم ان العلاقة بين المشهدين لاتبدو متطابقة أو متشابهة لكن هناك عامل مشترك بينهما وهو «النظارة السوداء».
في قصة إحسان عبدالقدوس كانت النظارة السوداء تمثل حاجز بين «مادى» الفتاة الاستقراطية العابثة وبين الحياة المتدفقة بناسها البسطاء الطيبين الكادحين، الفيلم الذي انتج عام 1963 كان معبرا عن فترة الستينات بزخمها الثقافى والتقدمى، وكانت القيم التي تروج في هذهالفترة قيمة العمل والتحرر من التبعية والاستقلال وأهمية دور المرأة في المجتمع ومشاركتها للرجل في الحياة العامة، حالة الرئيس السيسى التي تحدث عنها ياسر رزق تبدو عكسية، فهو مهموم بهؤلاء البسطاء، والنظارة ليست حاجز بينه وبينهم ولكنها وسيلته لإخفاء مشاعره الرقيقة حيالهم عكس «مادى» التي لم تكن تعرف شيئا عن هؤلاء ومشاكلهم قبل أن تتعرف على المهندس عمر الذي غير حياتها وجعلها في النهاية تخلع النظارة السوداء، فقبل معرفتها به كانت لاتعرف إلا عالمها الضيق المحدود المتعالى .
المهندس «عمر» جعل «مادى» تقترب من حياة عمال المصنع البسطاء وتختلط بهم وانتهى بها الحال لأن تصبح مدافعة عن قضاياهم وحقوقهم ،اما الأستاذ ياسر رزق فلم يقدم للرئيس حلولا تقربه من هؤلاء الفقراء أو اسلوب لذلك ولكنه قدم نصيحة برجماتية:أن لايخجل الرئيس من دموعه، ويترك لنفسه العنان ليعبر عن فيض المشاعر الرقيقة الحانية تجاه الفقراء الغلابة الذين تتكاثر اعدادهم يوما بعد يوم، ويبدو أن الرئيس تأثر بهذه النصيحة الحكيمة ووافق عليها ضمنيا فهو ليس أعز من الرسول الكريم أوخليفة المسلمين أبوبكرالصديق.
حوار بين قطبين من أقطاب الصحافة ياسر رزق رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة الأخبار وممتاز القط رئيس تحرير «أخبار اليوم» الأسبق، كنت انتظر منه إضافات مهمة عن الوضع الراهن وتحليل عميق للظرف الحالى، ولكن مادار بينهما خلال برنامج «حصريا مع ممتاز» على قناة العاصمة، كان أقرب لدردشة وفضفضة بين الأصدقاء، وهذا منطقى ،الاثنان جمعهما العمل في مؤسسة أخبار اليوم، ولهما ذكريات كثيرة مشتركة ووجهات نظر متقاربة، وكلاهما كان مقرب من مبارك ورجال نظامه.
بالرغم من ان هناك فروق جوهرية بين عهد مبارك والسيسى، إلا ان الصحفيين المخضرمين يتعاملان مع الرئيس السيسى بأسلوب «طشة الملوخية»، وهو التعبيرالشهير الذي استخدمه ممتاز القط ليعبر به عن تعاطفه مع الرئيس مبارك المحروم من لذات بسيطة يتمتع بها كل الشعب ومنها طشة الملوخية وذكرها في مقال «حمال الهموم»الذى نشره في جريدة أخبار اليوم عام 2009 ،على قدر ما تسعفنى الذاكرة.
والشىء بالشىء يذكر ،الأستاذ ممتاز القط كلامه دائما حلو مع النظام الحاكم قبل وبعد ثورة يناير، فلقد كتب في أغسطس عام 2012 في زاويته «كلام يبقى» بجريدة الأخبار مقال بعنوان «أخلاق الكتاتني وشهامة مرسي» مدح فيه الرجلين قائلا: الدكتور سعد الكتاتني قدم نموذجًا نتمنى تكراره في أسلوب الأداء لرئيس البرلمان ومدي قدرته على الجمع بين الصرامة والحسم وأيضًا اللين واللطف مع بعض تجاوزات أو هفوات وأخطاء أعضاء البرلمان،وقال عن مرسى: مرسي يتمتع بذكاء وفطنة شديدين، بالإضافة إلى دماثة خلق والعديد من اللفتات الإنسانية التي تجلت في قراره بتكريم هؤلاء القادة السابقين.
لا أحد يشك في أن الزميل ياسر رزق محب ومخلص ومقرب من الرئيس السيسى منذ أن كان وزير دفاع، وأعتقد أنه اراد من قصة «النظارة السوداء»أن يؤكد على الوصال والود بين الشعب والرئيس، ولكن للأسف كما كانت النتيجة سلبية مع طشة الملوخية، جاءت النتيجة سلبية مع النظارة السوداء، الموقفان يذكرانى بمافعله الدب الطيب مع صاحبه حين القى عليه حجرا ليبعد عن وجهه ذبابة!!
لا أفهم ولا استوعب اصرار بعض الإعلاميين والصحفيين على التعامل مع الرئيس السيسى بأعتباره امتداد لعهد مبارك، ولماذا يصر هؤلاء على تقديم ما سبق تقديمه، نفس الأسلوب ونفس الأداء، رغم ان هناك مقولة تردد على لسان العبقرى «ايناشتين»: الغباء هو ان تكرر نفس الفعل مرتين وتنتظر نتيجة مختلفة، فهل نجح إعلام مبارك سابقا في تحسين صورته أو خلق حالة من الثقة بينه وبين الشعب؟ فلماذا إذن تكرار نفس النهج، رغم اعتقادى الشخصى بأن الرئيس السيسى لايسعى لذلك، فهو أذكى من أن يقع في فخ المديح الذي يصل إلى درجة النفاق أحيانا، لأنه كان شاهد وشريك في كل ماحدث خلال السنوات الأريع الأخيرة.
ما يحتاجه السيسى شهادة حق ونصيحة رشيدة من حكيم أو عالم.. وإن لم يكن.. فالسكوت من ذهب .