قرأت منذ عدة أيام عن زيارة رئيس الوزراء المهندس شريف إسماعيل لمحافظة الإسكندرية، ومرافقته المحافظ فى جولات ميدانية كانت فى مجملها لطيفة ومفعمة بالأمل، فسعدت لتطور الأمور فى عروس البحر الأبيض إلى الأفضل، خاصة أننى كنت حزيناً على هذه المدينة التى ترعرعت بها، والتى أصابها ما أصاب الكثير من المدن المصرية خلال الأعوام الأخيرة من بناء عشوائى ينطح السحاب والقمر والشمس وحتى كوكب بلوتو.. الشوارع فى حالة سيئة، والقمامة منتشرة فى الطرقات، والمرور يختلط فيه الحابل بالنابل، فى رقصة جهنمية يتعانق فيها المشاة والسيارات ويتعارك فيها كل قائد سيارة مع جيرانه السائقين.
متفائلاً توجَّهت إلى الإسكندرية أمس الأول بدعوة كريمة من روتارى نادى سبورتنج لإلقاء محاضرة عن شتى الأمور التى يهتم بها المواطن المصرى.. كان الطريق من القاهرة وحتى حدود الإسكندرية ممهداً وناعماً، وفى نفس مستوى الطرق السريعة فى أكثر البلاد تقدماً، ولكن بإضافة مشهد ساحر لقرص الشمس وهو يتجه للغروب على خلفية أشجار النخيل فى النوبارية.. بدأت الأمور تختلف إلى حد ما بعد عبور بوابة الإسكندرية ولكنها ظلت فى إطار مقبول حتى وصلت المدينة المزدحمة على غير العادة.
بدت عروس البحر المتوسط حزينة، فالأنوار التى كان الكورنيش يتلألأ بها مطفأة فى معظمها والباقى باهت لتذكرنى بأيام الحرب، ولم أُعر الموضوع اهتماماً إلى أن رأيت الصروح العملاقة التى سدت الرؤية تماماً، منها ما هو قديم كنت دائماً أطالب بإزالته، كنوادى القوات المسلحة والشرطة والمعلمين، ولكنها على العكس ازدادت توحشاً- من حيث الحجم و«الوحاشة»- وأضيفت إليها أبنية قبيحة للتجاريين وكافيهات، ثم- يا للهول - ملاهى أطفال ومراجيح مولد النبى، ثم فنادق وإنشاءات كثيرة فى طريقها إلى سد عين الشمس، وعين اللى ما يصلى على النبى، وعين الحسود، وعين كل من يحب الطبيعة والجمال.
فى الندوة سألت الحاضرين: كيف وافقتم أن يتحول أجمل ما لديكم إلى هذا الشكل القبيح؟ متى حدث كل ذلك؟ ومن سمح بتفاقم الأمور إلى هذا الحد، حيث إن الضفة الأخرى من طريق الكورنيش تلاصقت عليها عشرات العمارات الضخمة والقبيحة، وأسفلها كل أنواع الأنشطة التجارية غير المسموح بها فى أى بلد فى العالم فى مثل هذا المكان؟
ما إن سألت السؤال إلا وانطلقت الأصوات السكندرية بكافة أنواعها، بدءاً من الحزن والشكوى المريرة، ومطالبتى بتصوير أعداد لا تُحصى من العمارات التى بنيت فى غفلة من الزمان بأساسات ضعيفة تنذر بكارثة مع أقل زلزال، إلى سرقة- نعم سرقة- سُوَر الكورنيش الأثرى فى منطقة بحرى والذى تم بناؤه منذ أكثر من مائة عام إلى قلعة قايتباى التى أصبح الطريق المؤدى إليها فى غاية القذارة، وتحت سيطرة البلطجية، إلى القمامة التى لم يستطع أحد كبحها حتى الآن، إلى تفاقم مشكلات الصرف، وهلم جرا.
سألت الحاضرين عن سبب إحجامهم عن الذهاب إلى الانتخابات فى يومها الأول، حتى يكون لدينا مجلس يحاسب المسؤولين، فقال البعض إنهم ذاهبون فى اليوم التالى، بينما أعرب آخرون عن يأسهم من تحسن الأوضاع، وغضبهم الشديد من حالة عدم الاكتراث من قبل مسؤولى المحافظة.. تعجبت.. فالمحافظ الحالى هانى المسيرى ينتمى لنفس الدائرة الاجتماعية لهؤلاء، فوجدت البعض يدافع عنه لأنه لا يستطيع العمل وحده والكل يحاربه، بينما انطلقت الأغلبية تهاجمه وتطالب برحيله، معتبرة أن الحكومة تدعمه دون حق بدليل زيارة رئيس الوزراء التى لم تقرب قلب المشاكل.
احترت فاستيقظت فى اليوم التالى لأرى فى وضح النهار كل ما قالوه وصرخوا به.. أشفقت على المحافظ، فالمهمة جسيمة، والفساد ضرب بجذوره فى المحليات والأحياء، وكافة الأجهزة وأصحاب الكافيهات والعمارات وأصحاب النوادى الفئوية من كل الفئات، حتى هؤلاء الذين نثق بهم فى كل شىء- القوات المسلحة- كلهم اتفقوا على تدمير ما تبقى من ملامح جمال فى المدينة التى نشأت بها.. كلهم خانوك يا ريتشارد- بصوت يشبه حمدى غيث- وأعنى هنا المواطن السكندرى وزائرها المحب لها، ولم يلتفت أحد إلى تلك الكارثة.
هل يمكن أن يتدخل أحد فيقوم بفرم كل هذا القبح قبل أن تتحول الصرخة الإسكندرانى إلى صوت إسكندرانى أسوأ؟.. أتمنى.