لا يعدم الرئيس السيسى أعداء ومنتقدين يكيلون له الاتهامات، ويشنون عليه الهجمات، على مدار الساعة، وقد نسب له بعض هؤلاء، وخصوصاً «الإخوان»، صفات لم تُنسب سوى إلى غلاة الطغاة والمستبدين على مدى التاريخ.
وفى مقابل ذلك، فإن أحداً لا يجادل فى أن للرجل مؤيدين وموالين ومعجبين بعشرات الملايين، وقد أفرط بعض هؤلاء فى مديحه والإشادة بأفعاله وخصاله، وإنزاله منازل التقدير والتكريم.
وقد دأب كثيرون ممن تصدوا للحديث عن خلفيته المهنية واستعداده العملى على القول بأنه «رجل أمن واستخبارات»، مستندين فى ذلك إلى الفترة المحدودة التى أمضاها على رأس جهاز الاستخبارات العسكرية، ومسقطين فى الوقت ذاته تجربة الزعيم الروسى بوتين عليه.
والمحبط حقيقة أن الغالبية العظمى من تلك المواقف والتقييمات بشأن السيسى أخفقت فى تعيين أهم سماته السلبية، ولم تنجح فى إدراك أفضل مناقبه، كما فشلت فى توصيف خلفيته المهنية على نحو سليم.
من جانبى سأجازف وأقول إن أخطر عيوب السيسى فكرته عن شكل السُلطة ودورها، والرؤية الصارمة، ومحدودية الثقة فى الآخرين، وعدم التعويل إلا على الذات.
وفى المقابل، فإن أفضل مناقب الرجل هى الوطنية، والإخلاص، والتصميم، ونظافة اليد، وعلو الهمة.
أما السمات التى بلورتها فيه خلفيته المهنية؛ فليست سوى: المثابرة، والقيادة، والإدارة الاستراتيجية، والتخطيط لبعيد.
ماذا لدينا إذن؟
لدينا ببساطة زعيم من طراز القادة الكبار المؤثرين، يصعب جداً أن تزدهر مساهمته ضمن فريق لا يقوده ولا يخطط له، ويصعب جداً أن يخطو خطوة من دون تمهيد وتوطيد، ويصعب جداً أيضاً أن يظهر مرونة، أو يغير مساراً استناداً إلى الإملاءات والتهديدات، أو التدافع والتضاغط، أو الآراء المعتبرة.
ومن ذلك أنه يفضل نصب الكمائن على المواجهة الحادة المكشوفة، ويستخدم أسلوب «الكرة المتدحرجة» أكثر مما يستخدم الاقتراب المباشر، ولا يبدأ أمراً إلا ويتمه.
فإذا ضربنا مثلاً بالانتخابات؛ سنجد أن معظمنا كان يفكر فى الأحزاب، والقوائم، واللجنة العليا، والطعون، والسلفيين، وسما المصرى، فيما السيسى كان يفكر فى «برلمان مريح ومطيع»، لتعديل الدستور، وإنفاذ رؤيته فى العمل الوطنى على مدى السنوات التى سيحكم فيها البلاد.
وفى السلاح، هو وحده الذى يعرف لماذا نشترى «الرافال»، والفرقاطات والمروحيات وأنظمة الصواريخ. وفى السياسة الخارجية، كان حريصاً فى وقت مبكر على أن يبدأ العلاقة بالروس وثيقة ومتوهجة، وأن يمضى فيها للأمام باطراد. ومع إثيوبيا، هو وحده الذى يعرف ماذا سنفعل لاحقاً.. وهكذا.
وما المشكلة؟
المشكلة تكمن فى أن بعضنا آمن بـ«ثورة يناير»، ومازال حريصاً على إنجاز استحقاقاتها؛ ومنها أن يحكم مصر رئيس بدرجة «موظف أو سياسى رفيع المستوى يتحلى بأقصى درجات الكفاءة»، فى ظل توزيع للسلطات وتوازن ورقابة متبادلة، وليس «زعيماً مُلهَماً بسلطة مطلقة». كما أن بعضنا آمن بالدستور الذى يمنح البرلمان صلاحيات، تجعله شريكاً فى الحكم، وليس مجرد مؤسسة لمساندة «القائد» وتأييده.
وفى مقابل ذلك، تواجه مصر تهديدات حقيقية، يدركها الرجل ويعمل على التصدى لها بقدر من الفاعلية، وهو الأمر الذى عزز إصرار البعض على منحه الثقة الكاملة، وغل يد أى قوة أخرى عن التأثير فى مسار العمل الوطنى، وتدعيم سلطته لتصبح شبه مطلقة.
واتساقاً مع التحليل السابق، فإن السيسى لديه تصور واضح عن الدستور والمواد التى يجب أن يتم تعديلها فيه من وجهة نظره.
كما أنه خطط تخطيطاً محكماً لشكل البرلمان المقبل، بما يتسق مع رؤيته، وطريقته فى العمل، والمصالح الوطنية العليا كما يشخصها هو، فى ظل تلك التهديدات الواضحة التى تستهدف الوطن.
وما النتيجة؟
سينجح السيسى، كما نجح سابقاً فى مفاصل عديدة، فى تفعيل رؤيته لشكل الحكم، مستنداً إلى إصراره وهمته، ومستعيناً بثقة قطاعات كبيرة من المواطنين فيه، ومستفيداً من خواء الأغلبية العظمى من نقاده وخصومه وتهافت قدرتهم.
وسيحصل السيسى على البرلمان الذى يريده، لكن مع ذلك فإن المخاطر ستظل كبيرة؛ لأن إخفاقه فى تحقيق الإنجاز على مدى سنوات حكمه، التى لن يزعجه فيها أحد، سيجعله فى وضع أسوأ من ذلك الذى بات فيه مبارك، كما أن نجاحه، الذى سيكون أمراً عظيما ومبهجاً بكل تأكيد، لن يحل مشكلة مصر مع الذين سيأتون بعده.